مرافعة الدولة وسيادة القانون: حين يُخاطب وزير الداخلية التاريخ من منبر البرلمان. حمدي مكية – إطار سياسي

2 مايو, 2025 - 19:05
 حمدي مكية – إطار سياسي

- قراءة استراتيجية في خطاب وزير الداخلية حول ضبط الهجرة:
- في لحظة سياسية مشحونة بخطابات التشويش، ووسط موجات متصاعدة من الشعبوية العابرة، اعتلى معالي وزير الداخلية واللامركزية والتنمية المحلية، السيد محمد أحمد ولد محمد الأمين، منصة البرلمان، لا ليردّ فحسب على سؤال شفهي من نائبة محترمة، بل ليقدّم مرافعة شاملة باسم الدولة، تخاطب الضمير الوطني، وتعيد تصويب البوصلة نحو السيادة والأمن والكرامة.*

لقد قدّم الوزير، في ردّه المتّزن، درسًا سياسيًا رفيعًا في كيفية الجمع بين قوة الدولة ورُقي الخطاب، بين حماية السيادة واحترام الكرامة، بين التمسك بالقانون والوفاء بالتزامات موريتانيا الدولية. لم يكن الرد مجرّد توضيح رسمي، بل وثيقة دولة ناطقة بلسان العقل المؤسسي، تعبّر عن نضج الدولة في مقاربتها لقضية الهجرة، وتمسكها الصارم بمفهوم "السيادة الرشيدة".

■ - لغة الدولة لا تقبل الغوغاء

ولعلّ ما يُميز هذا الخطاب ـ في تقديري كمهتم بالشأن السياسي العام ـ ليس مجرد تفنيد بالأرقام أو تبرير للإجراءات، بل انتصار لثقافة قانونية لا تزال بعض الأصوات تُحاول استضعافها تحت يافطات "الحقوق" المجتزأة أو الشعارات الفضفاضة. الوزير، بوعي رجل الدولة، رفض تعبير "طرد الأجانب" واستبدله بـ *"ترحيل من هم في وضعية غير قانونية"*، وهذا ليس مجرد تدقيق لغوي، بل إعادة تقويم للمفاهيم في الفضاء العمومي، حيث اللغة تصنع الوعي السياسي كما تُحدّد سقف الشرعية.

■ - من ارتجال اللحظة إلى حكمة الاستباق

لم يكتفِ الوزير بالدفاع، بل قدّم أرقامًا تكشف عن استراتيجية بدأت منذ سنوات، أبرزها تسوية أوضاع أكثر من 136 ألف مهاجر غير نظامي. هذا ليس رد فعل طارئًا، بل خطة دولة تتحرك بهدوء، وتنظّم بحكمة، وتُطبّق القانون بعد أن تُمهّد له بالأرضية الإنسانية والقانونية السليمة. لقد أبرز الخطاب مقاربة تميل إلى الإصلاح لا العقاب، إلى التنظيم لا الزجر، في انسجام مع دستور البلاد ومواثيقها الدولية.

■ - أمن الهوية والتحوّل الرقمي #درع_سيادي

أبرز الوزير الدور المحوري للأنظمة الرقمية "ديّار" و"هويتي" و"الخاطر"،  فالهجرة غير النظامية لم تعد مجرد تدفق أفراد، بل أضحت نطاقًا خصبًا لنشاط شبكات عابرة للحدود، ما يجعل التصدي لها مسؤولية سيادية تتجاوز الأطر التقليدية.

لقد جاءت الإشادة بالأنظمة الرقمية الوطنية مثل "ديّار" و"هويتي" و"الخاطر" باعتبارها حائط الصد الأول لحماية الهوية الوطنية، لتؤكّد أن أمن الدولة يبدأ من أمن الهوية. فالهجرة غير النظامية لم تعد مجرد تدفق أفراد، بل تحدٍّ اجتماعي، وأوضح ولد الحويرثي أنها أضحت نطاقا خصبا لنشاط شبكات تهريب عابرة للحدود وبابًا للجريمة والاتجار بالبشر. وهنا، ما يجعل التصدي لها مسؤولية سيادية تتجاوز الأطر التقليدية  إلى مقاربة سيادية رقمية تستبق التهديدات وتُحكم الرقابة دون إهدار للكرامة.

■ - تكريم مؤسسات السيادة*

لم يكن خطاب الوزير محمد أحمد انتصارًا لنفسه في ظل حملة الشيطنة التي تستهدفه ولا لنظام الذي يعتبر ظله ، بل للدولة وسيادتها، حيث عبر عن شكره وعرفانه  لأجهزة الدولة التي تسهر على أمن وحماية البلد ، بكفاءة عالية وحزم ، لقد عبّر الوزير عن عرفان مستحق لقوات الأمن، ولعناصر الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة، وكل أولئك الذين يعملون في الظل، ليبرهنوا لنا وللشعب يومًا بعد يوم أن أمن موريتانيا واستقرارها خط أحمر.

■ - ختاما :
إن ما يميز الوزير محمد أحمد ولد محمد الأمين، ليس فقط حُسن الخطاب ولا دقة الألفاظ، بل القدرة النادرة على تمثّل الدولة بمفهومها الحديث: دولة الحق، والمؤسسات والسيادة. 

ففي كلماته لا ترى فقط رجل أمن، بل مفكّرًا في موقع المسؤولية، يزن القضايا بميزان السيادة من جهة وبوصلة القيم من جهة أخرى.

لقد وجّه الوزير للجميع رسالة بالغة الوضوح : موريتانيا بلد مضياف، لكنه منظم؛ منفتح، لكنه محصّن؛ كريم، لكنه لا يُستباح ، وبرهن على أن صوت الدولة أعلى من كل ادّعاء، وأوضحْ من كل تشويش، وأصدق من كل مزايدة.

- هذا الخطاب يجب ألا يُقرأ فقط كردٍّ على سؤال، بل كوثيقة سياسية، وقانونية، وسيادية، تستحق أن تُدرَّس في معاهد السياسة والإدارة، كنموذج في فن التعبير عن المصلحة العليا للوطن، دون تنكّر للحقوق، ولا تخاذل أمام الفوضى.