"التّبْراع".. أدب تحدت به المرأة الموريتانية الرجل

4 يناير, 2019 - 10:34

 

أُحِلَّ للرجل في موريتانيا أن يتغزل بالمرأة، وحتى أن يرفث إليها من غير عذرية بما أمرته به نفسه عبر القصائد والأزجال، بل إن بعض أبرز الشعراء في تاريخ البلد لا يعرف لهم إلا غزل وتشبب، وبكاء على الطلل، وعَوْج على ما اندرس من ديار الصبابة وما أقفر من منازل الأنس. وأما النساء فكتب عليهن أن يعشقن -إن هن عشقن- بصمت.

وهي ملامح لذكورية وقبلية بدوية طبعت الحياة في هذه الربوع منحت الرجل حقه في التعبير، والمرأة حقها في الصمت، حقها في الحضور موضوع غزل وهيام، وحقها في الغياب ذاتا عاشقة طالبة للوصل واللقاء. خريطة للمشاعر والأحاسيس رسمها الرجل الصحراوي، وأعادت صياغتها المرأة برقة وحنان.

فبعد أن أثقلت الهموم المرأة وبلغت وطأة الشوق والحنين ذروتها نظرت إلى التقاليد والأعراف بعين من الشك، وفكرت في التحرر، ولو قليلا، من سطوة المجتمع والرجل، فجرى اللسان بما فاض عن القلب وحملت الكلمات ما ضاقت به الصدور. تقول إحداهن بَرمِة، وقد أعيتها تلك العادات والتقاليد:

ويلي مشقاني*من عوايد موريتاني!
(يا ويلي ما أشقاني*من تقاليد موريتانيا!)

هكذا ولد أدب "التّبْراع" زفرة أنفاس أنثوية محرومة، ولوعة شوق تحررت ذات فيض من العشق والهيام بعد تراكم للحواجز والعقبات، فانسابت متجاوزة بخطوة أو اثنتين ما رسم المجتمع من حدود وما فرض من قيود.

شحنة وجدانية
يقول الناقد الأدبي الأستاذ الجامعي الشيخ ولد سيدي عبد الله إن حرارة التّبْراع تنبع من السياج والقيود التي ضربها المجتمع التقليدي على المرأة، ويضيف أن "الشحنة الوجدانية التي تحملها "تبريعة" لا تتعدى السطرين تتجاوز في بعض الأحيان ما تحمله قصيدة كاملة من الفصيح أو الشعبي.

إنها شكوى وإخراج إلى الوجود لما تراكم من الوجد والشوق في كلمات بسيطة وتعابير مكثفة من قبيل:

لا إله إلا الله*يَحَدْ ابْغَ حد ألا راهْ
(وما من ملجأ إلا إلى الله*بعد أن يمتنع وصل الحبيب ولقائه)

وبقي في اللاوعي بعض من قيود المجتمع، فلم تعرف قائلة لغالبية "التّبْراع". كان يؤلف سرّا ويتداول في المجتمع التقليدي بعيدا عن أعين الرقيب الاجتماعي، أو قل "مات المؤلف" ولمتلقي هذا الأدب أن يقرأه بحيادية ويتخيل عملية الولادة الإبداعية، وما حفها من صعوبات، وما تطلبت من شجاعة.. أو هو سعي لجعل "التّبْراع" ملكا مشاعا لجميع النساء يكسرن به صمتا أطبق على عالمهن ردحا طويلا من الزمن.

ويرى ولد سيد عبد الله أن الجهل بقائلة التبراع خاصة القديم منه هو سمة تضفي جمالية على نصوصه وتميزها عن بقية التعابير الأدبية كالشعر الفصيح والشعبي الذي ينتجه الرجال، وتُبقي قائلة "التِّبْراع" بعيدة عن التبعات الخطيرة للتصريح بالحب من طرف المرأة في مجتمع تقليدي محافظ.

ثورة أدبية
غير أن "التّبْراع" لم يكن مجرد محاولة لكسر حاجز الصمت وحسب، بل كان ثورة على الشكل والقوالب والأغراض الأدبية الكلاسيكية. فبه اجترحت المرأة الموريتانية لونا جديدا يختلف عما عاشت داخله من تقاليد أدبية ذكورية، من قصائد فصيحة وشعبية تلتزم البحور الشعرية والقوافي.

لكأنها أرادت التأكيد على اختلاف التجربة والظروف المحيطة بحالة الإبداع، فكان عليها خلق لون أدبي مغاير لا يكتفي بإسماع صوتها المبحوح.. بل يتجاوز ذلك لينشئ عالما خاصا من الكلمات والأشياء.. عالم لا سلطة فيه لأحد على أحد.. عالم من سطرين لا فخر فيه ولا مدح ولا هجاء، ولا غرضا آخر غير الغزل.

وتقول الفنانة فاطمة منت آبة إن هذا الأدب "محاولة تعبير عما نشعر به.. فكما يملك الرجل مشاعر ويعبر عنها، تفعل المرأة".

وتنشد الفنانة، وهي تدندن على "الآردين" آلة الموسيقى الخاصة بالمرأة الموريتانية، رفقة صديقاتها أزجالا من "التّبْراع" تختصر تطَلُّع المرأة -من خلال هذا اللون الأدبي- إلى الوجود على قدم المساواة مع الرجل.

ومن حضور "التّبْراع" في المدونة الموسيقية، وبالذات في مقامات الشوق والوجدان، نما وتناقلته الأجيال حتى أصبح تراثا له تقاليده وطقوس أدائه. فهو ملح الجلسات النسوية الحاضر في الأسواق والمحلات التجارية والنزهات، وفي حفلات الزواج والأماسي الفنية.

المصدر : الجزيرة