ما زال كثير من الموريتانيين يحنّون إلى حياة الحِلّ والترحال التي كان يعيشها أجدادهم في القرون الماضية، فما إن يحلّ موسم الخريف حتى تسارع الأسر الموريتانية الى هجر المدن والبحث عن "معاني الجمال الطبيعية" في البادية التي تكتسي حلة خضراء بعد أمطار يونيو/ حزيران.
بسبب ترسخ القيم البدوية في المجتمع يبقى موسم الخريف هو المفضل لدى الموريتانيين إذ يعودون خلاله إلى نمط الحياة البدوية القديمة التي هجروها مرغمين. يقول محمد فال ولد سيديا (موظف) إنّ الكثير من الموريتانيين يغادرون المدن في موسم الخريف الذي يصادف العطلة الصيفية باتجاه المناطق البرية للتمتع بجمال الطبيعة في الصحراء والعيون المائية والسهول التي تشهد أمطاراً تحيي الأرض وتغري الزائرين بالتنزه والتخييم. يشير إلى أنّ غالبية الأسر تملك قطعان ماشية وإبل، يهتم بها عادة رعاة يتنقلون بها في البوادي بحثاً عن الماء والكلأ، وحين يحين موسم الخريف تلتحق الأسر بمواشيها في هذا الموعد المحدد حيث الماء والخضرة والصحبة الطيبة، فتصبح هذه المواشي بألبانها ولحومها العنصر الرئيس لغذاء المصطافين. يضيف أنّ الأسر التي لا تملك قطعان ماشية حتى تتجه إلى الريف للاستمتاع بخصائص الخريف ومجاورة أقاربها وجيرانها الذين يملكون قطعان الماشية التي تدرّ حليب النوق والأبقار الصحي والمفيد.
يبدأ موسم الخريف في منتصف يوليو/ تموز ويستمر حتى أواخر سبتمبر/ أيلول، فبالرغم من تغير أحوال الطقس وتأثر موسم الأمطار إلا أنّ موسم الخريف بقي وفياً لموعده بفضل الأمطار الصيفية التي تتساقط خلال شهري يونيو/ حزيران ويوليو. يستغل الموريتانيون هذه الفترة للهروب من صخب حياة المدينة إلى ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﺍﻟﺠﻮ ﺍﻟﺼﺤﻲ في اﻠﺒﺎﺩﻳﺔ، ويعتقد كثيرون أنّ الخروج إلى البرّ ﻓﻲ ﻫﺬه الفترة ﻳﻤﺪ ﺃﺟﺴﺎﺩﻫﻢ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ وﻳﺤﻤﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﺮﺍﺽ ﻭﺍﻟﺘﻠﻮﺙ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﻴﺐ ﺍﻟﻤﺪﻥ.
تبدأ الأسر الاستعداد لموسم الخريف حال ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة في المدن الغربية فيبدأ الجميع البحث عن أنسب مكان لقضاء الإجازة بعيداً عن المنشآت والمشاريع والمصانع الضخمة والمدن المكتظة وما تعانيه خلال موسم ﺍﻷﻣﻄﺎﺭ ﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﻻ ﺗﺘﻮﻓﺮ أﻏﻠﺐ ﻣﺪﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺷﺒﻜﺎﺕ ﻟﻠﺼﺮﻑ ﺍﻟﺼﺤﻲ. يقع اختيار غالبية الموريتانيين على المنطقتين الشرقية والوسطى، خصوصاً الحوض الشرقي الذي يعتبر من أكثر المناطق ملاءمة لرعي المواشي وحلبها بفضل توفر الكلأ والماء في مناطق الرعي الشاسعة.
يستغرق التجهيز لرحلة البادية أياماً من أجل شراء المؤونة وتجهيز سيارة الدفع الرباعي للتنقل في الصحراء طوال أيام بحمولة كبيرة، واستئجار خيام تؤوي الأسرة طوال مقامها في البادية. مؤخراً أصبح لبعض الموريتانيين طقوس خاصة للخروج إلى البادية منها توفير مولدات كهرباء ونقل أجهزة كهربائية كالتلفزيون والبراد، وتزيين الخيام بالأفرشة وتوفير الأسرّة للنوم بعدما كانت رحلات البادية ترتبط بنمط الحياة البسيط من خلال النوم على الأرض والأكل مما تجود به الطبيعة.
تقول رقية بنت دحمان (ربة منزل) إنّ الأسر الموريتانية باتت تتنافس في توفير كلّ شيء في البادية ونقل متع المدينة إلى الريف، وهو ما أفقد موسم الخريف نكهته خصوصاً بالنسبة لمن يبحثون عن الهدوء والراحة والاستمتاع بالحياة الطبيعية في الريف. تضيف أنّ الخروج إلى البادية بات بالنسبة إلى كثيرين مرادفاً للتفاخر بالأموال وقطعان الماشية وتوفير كلّ ما يلزم الأسرة وضيوفها من ضروريات وكماليات، بعدما كانت البادية بالنسبة لمعظم الموريتانيين هي الخيمة وشرب حليب الإبل وأكل ما يتوفر من لحوم الماشية التي يجري ذبحها بحسب حاجة الأسرة.
تشير بنت دحمان إلى أنّ أوجه الاستمتاع بحياة الريف في موسم الخريف متعددة منها الراحة والاستجمام والاستمتاع بالمياه المتدفقة والهواء العليل والرمال الذهبية والتعارف بين الناس واستحضار العادات البدوية الأصيلة كالرماية وسباق الخيل وركوب الجمال وحلب النوق وتوارث العادات بين الأجيال وتنظيم السهرات الليلية على الرمال وجلسات الشعر والشاي.
يفسر البعض إقبال الموريتانيين بكثرة على البادية في الخريف بتجذر قيم البداوة في المجتمع بالإضافة إلى قلة أماكن الترفيه في المدن، وتفاقم مشكلة التلوث خلال موسم الأمطار في الأخيرة، ما جعل البادية الملاذ المفضل للأسر. مع ذلك، يحذر باحثون من الآثار السلبية لهذه الظاهرة على حياة المدن خصوصاً أنّها تتسبب في تعطيل الإدارة وتأخير المعاملات بحجة غياب الموظفين والعمال.
العربي الجديد