ينتظر سيدي محمد مصير جده ووالده في فقدان بصره، بعد أن بات توارث العمى أبرز ميزة يعرف بها سكان قرية دالي كمبة، البعيدة في عمق الصحراءالموريتانية، الواقعة على بعد 60 كلم من مقاطعة تمبدغه في أقصى الشرق الموريتاني.
غياب حكومي
يشكو الشيخ الستيني سالم ولد محمد من غياب التدخل الحكومي للحد من العاهة المتفشية بين سكان القرية ما "زاد من معاناتهم، وجعلهم يعيشون ظروفاً قاسية بفعل العمى وصعوبة الحياة اليومية في عمق الصحراء"، على حد قوله.
ويحمّل ولد محمد، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، "الحكومة الموريتانية مسؤولية تفاقم ظاهرة العمى الوراثي، من خلال غيابها المتواصل والمتعمّد عن القرية"، مطالباً في الوقت ذاته بوضع حد للعاهة التي تواصل انتشارها بين السكان منذ عدة عقود.
يؤكد ولد محمد أن الوضع يزداد سوءاً بفعل ارتفاع نسبة المواليد المتأثرين بالعيب الخلقي، وغياب أي آفاق لمواجهة الظاهرة التي باتت اليوم تميّز القرية عن أكثر من ألفي تجمع سكني بالحوضين في أقصى الشرق الموريتاني.
يأس وقنوط
في الحي الجنوبي الشرقي من قرية دالي كمبة يعلو القنوط واليأس محيا المواطن سعدنا ولد الشيخ من إيجاد فرصة للقضاء على المرض، سواء عن طريق تدخل حكومي أو عبر إحدى المنظمات الأهلية أو فاعلي الخير في البلد.
وعبّر سعدنا ولد الشيخ، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، عن أمله في أن يشكل حديثه إلى وسائل الإعلام رسائل سريعة تصل للقائمين على الشأن العام في البلد حتى "يتحركوا لمساعدة سكان القرية الريفية، بعد أن أرهقهم البحث ويئسوا من الحصول على أي فرص لعلاج المصابين بالعمى الوراثي".
معاناة متعددة
يذكر أحمد سالم ولد محمد كيف يعيش أبناء قرية دالي كمبة واقعاً مزرياً يترجمه بؤس حياتهم اليومية التي يقف فقدان الرؤية حجرعثرة أمام تطورها للأفضل منذ سنوات طويلة.
وأكد ولد محمد، لـ"العربي الجديد"، أن "حاجة السكان للعلاج باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى بسبب اشتداد مرارة الحياة، وقسوة فقدان الرؤية في أبشع تجلياتها بعيداً عن أي مساعدات قد تشكل فرصة العمر، وتعيد الرؤية للعديد من الأجيال الذين حرموا منها منذ سنوات لتوارثهم لمرض العمى".
أضاف ولد محمد أن السكان يعتمدون في قوتهم على تربية الماشية، وبعض المهن المحلية المتعددة، لكن صعوبة الوصول إلى الأعمال التي تحتاج للرؤية في ظل تفشي العاهة، يعد مأساة يومية.
آمال مفقودة
يرى سكان "دالي كمبة" أن السلطات المحلية بإمكانها إيفاد بعثة طيبة متخصصة في طب العيون من أجل إجراء فحوصات للمصابين، والوقوف على حقيقة إمكانية التغلّب على المرض، في الوقت الذي استطاع الطب الحديث توفير الشفاء لنزر قليل منهم على مسؤوليتهم الخاصة، لكن الغالبية العظمى بقيت تواجه عتمة الظلام في ظل غياب أي مساعدات إنسانية سواء من جهات حكومية أو منظمات خيرية.
ويستغرب محمد الأمين ـ أحد سكان القرية ـ الصمت المطبق للجهات الرسمية عن مأساة سكان القرية، "كأننا لسنا مواطنين ولا تعني مأساتنا شيئاً للقائمين على تسيير الشأن العام بموريتانيا".
اعتبر محمد الأمين أن الحكومة المحلية لم تقدم أي دعم لسكان قرية دالي كمبة سواء على صعيد المساعدة في العلاج من المرض المستشري، أو بخصوص تخفيف معاناتهم مع الفقر وصعوبة العيش في الريف الموريتاني.
آلام العزلة
بينما يداعب سالم ولد محمد الأرض بعصاه الطويلة، قال إن "اقتصار العلاقات الاجتماعية على المصابين بالمرض من أبناء القرية، خفف من وطأة انتشاره خارجها، لكنه في المقابل حرم أبناءها من نعمة التواصل مع الجيران، والانفتاح على المجتمع، ما يهدد بإيجاد مجتمع معزول عن محيطه الاجتماعي في العقود القادمة".
وتابع ولد محمد: "الفرص المتاحة للجيل الحالي للهروب من الواقع الاجتماعي الصعب قليلة، وضع أكثر من 200 شخص يعيشون في قرية دالي كمبة مزرٍ، بعد أن سدت أمامهم الدروب بفعل المرض الوراثي وغياب أي عناية صحية.
قسوة الظروف
إسماعيل ولد عبد الله، أحد سكان القرية، يكشف عن غياب مياه الشرب، قائلاً: "نعتمد على جلب المياه من الآبار، ونسقي المواشي منها، وهو ما زاد من معاناتنا بسبب انعدام الرؤية الذي نتوارثه منذ عقود".
وأضاف ولد عبد الله، لـ"العربي الجديد"، أن "السلطات المحلية لم تمد لنا يد العون حتى الآن. تركتنا نواجه صعوبة ظروف العيش في الريف الموريتاني حيث تنعدم معظم مقومات الحياة الكريمة، ويسود البؤس والشقاء معظم سكان المنطقة التي تعد من أكبر المناطق الداخلية كثافة سكانية".
التسوّل من أجل الحياة
يعيش معظم سكان قرية دالي كمبة على التسول بفعل ضعف الموارد المالية، وتراجع الاعتماد على الثروة الحيوانية، وغياب أي برامج رعاية اجتماعية حكومية موجهة للمكفوفين من أمثال هؤلاء.
"يمارس سكان القرية مهناً غريبة حيث باتت القرى المجاورة تستعين بشيوخ قرية دالي كمبة للبحث عن المناطق ذات الكثافة المائية قبل حفر الآبار"
يمارس بعض سكان القرية مهناً أخرى أكثر غرابة بفعل ما يرون أنها موهبة منحها الخالق لأبناء القرية، حيث باتت القرى المجاورة تستعين بشيوخ قرية دالي كمبة للبحث عن المناطق ذات الكثافة المائية قبل حفر الآبار، مع تمييز المياه المالحة من المياه الباردة بمجرد شم التربة قبل بدء العمل فيها، وهو أمر شكّل أبرز مصادر الدخل لممتهنيه من كبار السن.
محمد المختار ـ أحد شيوخ دالي كمبة ـ أكد أنه لا توجد في القرية أي فروق اجتماعية، وتنتشر فيها كتاتيب القرآن الكريم (المحاظر)، حيث خرجت محظرة القرية الأبرز أكثر من 20 من حَفَظة كتاب الله، ولم يكتب واحد منهم حرفاً، لكنهم حفظوه بالسماع، بينما لا تزال المدارس النظامية معدومة فيها، رغم إلحاح الشيوخ على المطالبة بها، ووعود السياسيين إبّان المواسم الانتخابية بتجاوز المشاكل الإدارية لفتح آفاق جديدة لأطفال القرية ممّن يمتهنون الرعي أو يقضون أوقات فراغهم تحت أشجار الغابات المتناثرة أو في العراء، وهم يستشعرون نعمة أشعة الشمس بعد أن حرموا من التمتع بها بالعين.
نغمة العمى
لا يميّز غالبية سكان قرية دالي كمبة بين ظلمة الليل وسطوع شمس الظهيرة بحكم العاهة الملازمة، لكن لليل في دالي كمبة أجواء أخرى يغلب فيها الطابع الفكاهي، إذ تتبارى النساء في الإنشاد المديحي المعروف محلياً بـ"التمجاد"، ولا تخلو بيوت الحي ومسجد القرية من مجال فتوّة يتبادل فيها الرجال غرائب التاريخ، وقصص الماضي، مع بعض التداول السياسي الذي تفرضه الأخبار المتداولة عبر الهواتف أو المذياع، فقد اخترقت القرية الحظر المفروض عليها، وباتت الهواتف النقالة أبرز مظاهر التواصل بين العاجزين عن التحرك أو بين رجال القرية القاطنين فيها، وبعض المهاجرين من أبنائها، ممّن افلتوا من المرض المتوارث بين السكان.
حضور السياسة
يمارس سكان "دالي كمبة" حقوقهم الانتخابية بشكل دائم، ويحسمون الصراع في المجالس المحلية في الغالب بحكم اتحاد الكلمة، كما أن لهم صوتاً مسموعاً في انتخابات المجالس التشريعية، غير أن صوتهم على المستوى الوطني لا يسمع بحكم ضعف التأثير، وتجاهل معظم المرشحين لمطالبهم المشروعة، وأبرزها الحق في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية.
ويؤكد ولد محمد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "سكان القرية سئموا وعود السياسيين الزائفة وجربوا كذبهم وتحايلهم لعدة سنوات، إذ تعلو أصواتهم خلال الفترات الانتخابية بشكل لافت، وتخفت وينقطع سماعها بشكل فوري عند معرفتهم لنتائج أول صناديق الاقتراع".
وأعرب ولد محمد عن أمله في لفتة حكومية تمنح سكان قرية دالي كمبة فرصة الحصول على الماء الصالح للشرب، وفتح مدرسة لتعليم أبنائها، إضافة إلى بناء مستوصف صحي يكمل حلماً لطالما تمنوا تحقيقه منذ عهود قديمة تعرضوا خلالها للخداع من بعض الساسة الذين لا همّ لهم سوى الحصول على أصوات الناخبين في خريف السياسة الذي سرعان ما ينقلب جحيماً يطارد سكان المناطق الريفية من موريتانيا.
نقلا عن العربي الجديد