ينتشر الزواج السري أو «السرية» كما تسمى محليا بشكل كبير جدا في المجتمع الموريتاني.
وتحظى هذه الظاهرة باهتمام الباحثين لكونها حلت لحد كبير محل الزواج المعلن العادي، وأصبح الكثيرون يلجأون إليه لعدة دوافع فالرجال يلجأون إلى هذا الزواج لإشباع رغبات جنسية لم تعد زوجة واحدة كافية لها، والأسر الفقيرة تلجأ إلى زواج قواصرها ومطلقاتها وأراملها سرا لتأمين دخل مالي في زمن طغت فيه الحاجة إلى المادة، والشباب أصبح هو الآخر يلجأ لهذا الزواج الذي لا تكاليف فيه كما في حال الزواج المعلن، ولما تشترطه البنات من مهور تأثراً بالعرف الإجتماعي السائد في موريتانيا والذي أدى إلى ارتفاع باهظ لمتطلبات تجهيز بيت الزوجية.
هذا هو رأي الشاب «م.س» وهو ثلاثيني من أسرة فقيرة قرر ذات ليلة، حسبما أسر به لـ «القدس العربي» الزواج من «م.م.س» التي تكبره بعشر سنوات هربا من تكاليف الزواج التي لا تطاق.
وتؤمن تقاليد وأعراف المجتمع الموريتاني للمرأة رفض تعدد الزوجات، وتوجب هذه التقاليد على الزوجة مغادرة بيت الزوجية إذا ما أضاف زوجها إليها «ضرة» وتتم المغادرة تحت وقع زغاريد النساء وأحيانا طلقات البنادق إنقاذا لشرف المرأة الرافضة للتعدد أو لخيانة زوج غير مخلص.
لا سابقة ولا لاحقة
ومن التقاليد التي تدخل في هذا الإطار، ما تشترطه أم الزوجة وقريباتها يوم عقد القران على المتقدم لابنتها بأن يلتزم بألا «سابقة ولا لاحقة» أي أن يعلن أمام القاضي والشهود أنه غير مرتبط بزوجة سابقة ولن يرتبط بأخرى لاحقة، وإن ظهر أي خلل في الالتزام بهذه الشروط يكون أمر التطليق بيد الزوجة مباشرة.
لقد حشرت هذه العادة، التي قننتها القواعد الفقهية، الزوج في زاوية ضيقة بحيث لا يمكنه التمتع إلا بزوجة واحدة وكان لا بد من إيجاد صيغة لتنفيس نزوات الرجال ورغباتهم التي لا يمكن أن تطفىء شهوتها زوجة واحدة قد تحيض وقد تلد فتحرم معاشرتها قبل مضي أربعين أو ستين يوما.
هكذا شرح الإمام سيدي أحمد ولد أحمد سالم إمام مسجد في مقاطعة عرفات جنوب العاصمة نواكشوط أسباب اللجوء للزواج السري.
واستقى الإمام هذه التوضيحات من شروح قدمها له أزواج ممن لجأوا للزواج السري وقدموا إليه لاستكمال عقد قرانهم بزوجات مخفيات عن الزوجات الأولى.
يقول الباحث الاجتماعي محمد محمود ولد سيدي مع أن في القرى الداخلية الموريتانية حالات كثيرة من الزواج السري إلا أن الظاهرة منتشرة أكثر في العاصمة نواكشوط وفي المدن الكبرى.
ترهل أم العيال
تقول الباحثة «ت.ع» المهتمة بمتابعة قصص الزواج السري «إن ممارسي عادة الزواج السري هم في الغالب مدراء بنوك وشركات ممن تتراوح أعمارهم بين الستين والسبعين، حيث تكون الزوجة الأولى أم العيال وبنت العم في الغالب، قد ترهلت وشاخت وذهب منها الأطيبان».
وتضيف الباحثة التي فضلت الترميز لاسمها قائلة: «المرأة الموريتانية تترهل في سن الأربعين وتصبح عجوزا لا طعم لها بفعل التسمين القسري الشائع وغياب ممارسة الرياضة وتقارب الولادات، فيضطر الزوج الذي يحتفظ بقوته الجنسية للزواج السري في الأحياء الشعبية طلبا للمتعة ودون علم أم العيال».
طريقة الزواج
المتعارف المتداول في المجتمع الموريتاني أن الزواج السري يبدأ باتفاق الرجل والمرأة، فيستدعي الرجل أحد الأئمة لعقد القران بحضور شاهدين، ويدفع الزوج المهر ويستكتم الشاهدين ومتولي العقد، ثم يبدأ الرجل في الدخول بالزوجة في بيتها أو في بيت مخف أو في غرفة بأحد الفنادق.
ولا يترافق هذا الزواج مع أي طقوس ويظل على حاله إلى أن يحدث الطلاق الذي يتم هو الآخر بالطريقة نفسها دون تسجيل الإجراءات لدى السلطات الرسمية.
ظاهرة مثيرة
يقول محمد ولد احمياده، وهو باحث اجتماعي، لـ «القدس العربي» «إن ظاهرة الزواج السري عرفت انتشارا واسعا في مختلف الأوساط البيظانية (العربية الصنهاجية) خلال السنوات الأخيرة وبخاصة في الأوساط الحضرية».
وأضاف «هي فعلا ظاهرة جديرة بالدراسة السوسيولوجية المعمقة، ذلك أنها ما زالت ظاهرة جديرة بالدراسة والتحليل، فرغم شح المعلومات العلمية الخاصة بها وغياب المعطيات الإحصائية حولها فإن ظاهرة الزواج السري أصبحت تطفو على السطح الاجتماعي بشكل مثير للانشغال العلمي».
وبخصوص الظاهرة يرى الباحث ولد احمياده «أن الزواج السري أقرب إلى الزواج البيولوجي منه إلى الزواج الاجتماعي والإنجابي، كما أنه يعبر أكثر عن اضطراب السلوك الجنسي واختلال منظومة قيم الإنسانية السوية بالمعنى النفسي».
مرونة التدين والطلاق
وعن أسباب الظاهرة يضيف ولد احمياده «أن لظاهرة الزواج السري عدة مسببات منها مرونة التدين الشعبي، وقدرة مسيري الحقل الديني على التحايل على النصوص وتطويعها لتبرير الممارسات الشعبية في المجالات الاجتماعية ومنها الزواج السري».
ومن الأسباب، يضيف الباحث، انتشار ظاهرة الطلاق التي تقدر بنسبة 28 في المئة في موريتانيا، وما ينجم عن الطلاق من وضعيات اقتصادية صعبة في أوساط النساء معيلات الأسر مما يضطرهن للقبول بأي صيغة زواج».
ويرى «أن من أسباب الظاهرة تصدع البنية التقليدية للمجتمع وما نجم عن ذلك من اختلال في التكافل الاجتماعي وضعف الرقابة الاجتماعية والقيمية في الوسط الحضري وكذا ضعف السلطات الرمزية المبنية على أنظمة القرابة».
الفوارق وتجاوز التراتب
وتوقف الباحث الاجتماعي ولد احمياده في تحليلاته لظاهرة الزواج السري في موريتانيا، عند ظاهرة انتشار الأحياء الفوضوية في ضواحي المدن (أحزمة الفقر) وما نجم عن ذلك من تواصل اجتماعي بين مختلف الفئات الاجتماعية، إضافة للفوارق الاقتصادية الحادة على مستوى المدن وانتشار الفقر في صفوف النساء في مجتمع يتسع فيه يوما بعد يوم، البون بين غنى الأغنياء وفقر الفقراء.
«ويسمح الزواج السري أيضا، وفقا لتوضيحات الباحث، بتجاوز التراتب الاجتماعي نظرا لطابعه السري بحيث يمكن إبرام زواج غير متكافئ يكون فيه الزوج من طبقة سفلى مع زوجة منحدرة من طبقة عليا نظرا لطابعه السري والمؤقت».
الإنسان مولع بالممنوع
من الملاحظ أن الزواج السري ينتشر أكثر داخل الشق العربي في المجتمع الموريتاني الذي تمنع فيه التقاليد تعدد الزوجات وتحظى فيه المرأة بمكانة سامقة، أما المجتمعات الزنجية التي ينتشر فيها تعدد الزوجات فلا وجود للزواج السري فيها لأن الرجل يجد كفاية لرغباته الجنسية فعدم التعدد يعتبر مسبة ومنقصة حسب التقاليد الزنجية.
وتعتقد الباحثة «ت.ع» « أن اشتداد غيرة النساء العربيات في موريتانيا، يجعل الزوج يعاني من الكبت الجنسي في حالة إذا ما كبرت الزوجة ويكون لزاما على الرجال تحت وطأة حاجاته البشرية البحث عن زيجات سرية لإشباع نزوات جنسية بطريقة مكتومة عن الزوجة».
أرامل ومعيلات أسر
وترى الحقوقية الموريتانية البارزة آمنة بنت المختار «أن تزايد نسب الأسر التي تعيلها نساء في المجتمع الموريتاني والبالغة 32 في المئة، ساهم بشكل كبير في دفع العديد من النساء نحو أحابيل الزواج السري تحــت وطـــأة حاجتهن الماسة لتوفير النفقات للعيال».
وتعتقد بنت المختار «أن نسبة كبيرة من النساء اللواتي يتزوجن سرا هن إما أرامل أو معيلات أسر، أغلبهن مطلقات تخلى عنهن أزواجهن وتركوا لهن أطفالا، إلى جانب لجوء فتيات من أوساط فقيرة للزواج السري تحت وطأة الحاجة المادية لأسرهن، وهربا من بيع أجسادهن في سوق البغاء».
وأضافت «غالبا ما وقعت فئة الفتيات الفقيرات فريسة سهلة لكبار الأثرياء ورجال الأعمال، الذين يغدقون عليهن وعلى أسرهن الأموال بسخاء مرده إلحاحات الرغبات الجنسية».
رأي الدين
يقول الفقيه الدكتور الشيخ ولد الزين لـ «القدس العربي» «أن الزواج السري هو الذي تكون جميع أركانه موجودة ولكن يوصى الشهود بكتمه وهذا الشكل من الزواج منعته المالكية وحرموه سدا للذريعة وخوفا من أن تنعدم البينات على الزواج مما يجعله مشكوكا في صحته من أصله».
ويضيف «ليس في الإسلام ما يسمى الزواج السري لأن الإسلام لا يعرف سوى الزواج الشرعي المستوفي للأركان والشروط وهي الإيجاب والقبول، والشهود العدول، والإشهار والإعلان، والولي، والمهر، وإذا لم تتحقق شروط عقد الزواج وبخاصة الولي الشرعي والإشهار والإيجاب والقبول كان عقد الزواج باطلا».
وقال «إن الحكم في الزواج السري، حسب المذهب المالكي المعمول به في موريتانيا، هو فسخه قبل البناء وتثبيته إن طالت المدة».
وأضاف «اتفقت مذاهب الأئمة على حرمة الزواج السري وإن اختلفوا في اشتراط إعلان الزواج إعلانا عاما أو الاكتفاء بمجرد الإشهاد، ويشترط علماء المذهب المالكي وهو المذهب السائد في موريتانيا والمغرب العربي، الإعلان العام للزواج، وأفتوا بأن كل زواج يوصي فيه الزوج الشهود بكتمانه ولو عن زوجته، يعد من زواج السر الذي لا يجوز».
وحول اشتراط الزوجة عدم الزواج عليها يقول الدكتور الشيخ ولد الزين أن الوفاء بذلك الشرط واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ».
ويرى الفقيه «أن خطورة هذه الظاهرة هو ارتباطها بقضايا شائكة أخرى منها إثبات البنوة والنسب والميراث، أما ما يحدث بين شباب الجامعات غير طريق الزواج الشرعي فهو باطل، بل أنه يعتبر من قبيل زواج التمتع أو الزنا المحرمين شرعا».
آثار وسلبيات
مع أن الزواج السري مخرج للكبت الجنسي وحل لإشكالات عديدة فإن المنظمات الاجتماعية في موريتانيا ترى أن له انعكاسات خطيرة في مقدمتها هروب الأزواج عن حالات الحمل إذا وقعت وبقاء المرأة في حالة ريبة حيث تتهم غالبا بالزنى.
ويعدد الباحثون المستقصون لسلبيات الزواج السري آثارا سالبة منها إضاعة النسل واستغلال المرأة، وتقبل الغدر والخيانة، وتمسك الرجل المتزوج سرا بزواج مشكوك في صحته لأنه زواج مكتوم عن الزوجة الأولى التي تملك شروطا بالتزام زوجها بعدم وجود زوجة سابقة أو لاحقة عليها.
السرية والطلاق
لا توجد إحصائيات دقيقة عن معدل انتشار الزواج السري في المجتمع الموريتاني إلا أن سجل إدارة النزاعات الأسرية بوزارة شؤون الأسرة وملفات ومحاضر والمحاكم تؤكد أن الزواج السري الذي تكتشفه المرأة هو من أكثر مسببات الخلافات الزوجية التي تبلغ بها الجهات الإدارية والقضائية وتؤدي الى الطلاق.
كما تؤكد هذه المعلومات أن نسبة كبيرة من النساء المتزوجات بصورة سرية هن مطلقات ومعلوم أن نسبة انتشار الطلاق في المجتمع الموريتاني تناهز 40 في المئة. وتؤكد المتابعات أن نسبة 60 في المئة من الزيجات السرية هي بين رجال متزوجين ونساء مطلقات.
شبكات تسهيل للزواج السري
يؤكد الباحث «م.م.س.ي» «أن ارتفاع الطلب على الزواج السري في العاصمة نواكشوط وعلى مستوى العاصمة الاقتصادية نواذيبو، أنتج شبكات للزواج السري تنشط فيها سيدات مسنات متخصصات في تلقي طلبات الراغبين والراغبات في هذا النمط من الزواج، وتنظيم ما يلزم من اتصالات لاستكمال العملية».
«وتتقاضى القائمات على هذه الشبكات، حسب الباحث، أموالا طائلة تصل للملايين في حالة ما إذا كان الراغب في الزواج رجل أعمال كبيرا أو فحلا ثريا».
نقلا عن القدس العربي " بتصرف"