حضور طاغٍ في الشارع وأحاديثِ غالبيةِ الناس، وغيابٌ شبه كاملٍ في الوثائق الرسمية والمعاملات الإدارية.. ترسيم في الدستور، وتهميش في التعليم.
واقع يعكس حال لغة الضاد في موريتانيا، وعنوان جدل لا يكاد يهدأ حتى يتجدد، وحين يطل اليوم العالمي للغة العربية يقفز إلى الواجهة صراع التعريب والتفرنس، في بلد ظل التعاطي فيه مع القضية اللغوية عنوان تجاذب سياسي، يقترب أحيانا من التمايز العرقي بين مكوناته.
فمنذ الاستقلال، ارتدى التعريب عباءة السياسة، فكان مطلبا للحركات المؤدلجة في عمومها، بينما رفضته النخبة المكونة بالمدارس الفرنسية، واعتبرته وسيلة لإقصاء وتهميش أطر المجموعة الزنجية.
وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على الاستقلال، ومُضِيِّ قرابة ربع قرن على اعتماد العربية لغة رسمية بنص الدستور، لا تزال الفرنسية حاضرة بقوة في الوثائق والعمل الإداري اليومي، ومسيطرة إلى حد كبير على المناهج التربوية.
طغيان الفرنسية
وباستثناء قطاعين حكوميين أو ثلاثة، لا تزال المراسلات والتقارير الإدارية في أغلبها تحرر بالفرنسية، وفي البرلمان يتدخل بعض النواب والوزراء في الجلسات العلنية بالفرنسية، وحين يتدخل نواب بالعربية تتم ترجمتها إلى الفرنسية بشكل فوري وإجباري.
وفي المجال التربوي، تبدو الفرنسية في موريتانيا سيدة الموقف من حيث التوقيت وعدد وطبيعة المواد التي تدرس بها، فالتدريس بالعربية يقتصر على مواد العلوم الإنسانية، بينما تدرس المواد العلمية بالفرنسية.
ووفق خبراء بالمفتشية العامة للتعليم، فإن الإصلاح التربوي الذي صدر سنة 1999 أعطى سيطرة مطلقة للفرنسية بالمناهج التربوية، فعدد الساعات التي يتعلمها التلميذ بالفرنسية في مختلف مراحل التعليم تفوق تلك التي يتعلمها بالعربية.
ويرى كثيرون نوعا من الغرابة والمفارقة في رسمية اللغة العربية بنص الدستور، وسيطرة الفرنسية على واقع الحياة العملية والتربوية، ويعزو كثيرون ذلك إلى غياب إرادة جادة لوضع النص الدستوري موضع التنفيذ.
ويقول رئيس "جمعية الضاد للدفاع عن اللغة العربية" الشاعر ناجي محمد الإمام إنه "لا توجد عوائق يعتد بها أمام تفعيل دور اللغة العربية الوطني، وكل ما في الأمر أن الموضوع يتطلب اتخاذ قرار بتفعيل النص الدستوري".
ويقول ناجي في حديث للجزيرة نت إنه "آن الأوان لأن تصبح الإدارة بلغة المواطن، وأن تقرب الإدارة من الناس، وذلك لا يتحقق إلا حين تكون بلغتهم". ويرى أن "العهد الحالي عرف بنوع من مباشرة المشاكل، وأولى المشاكل التي ينبغي أن تواجه هي قضية الهوية التي يجب أن تحسم".
تمكين لغوي
أما الشاعر التقي ولد الشيخ، وهو مدرس، فيرى أن "المستعمر الفرنسي مَكَّنَ للغته في هذا البلد قبل أن يغادر، وحين نالت البلاد استقلالها وأرادت إدخال العربية في المدارس النظامية تولى المهمة خريجو محاظر بدويون غير مكونين تربويا ومدنيا، فخلق ذلك صورة نمطية للغتنا تصنفها لغة دين ومسجد لا لغة حضارة وحداثة".
ويضيف ولد الشيخ في حديث للجزيرة نت أن "الأمر تعمق بفعل سيطرة جيل تكون في المدارس الفرنسية على مقاليد الأمور في البلد بعد الاستقلال، إذ بات جهل الفرنسية سببا للتهميش، ولم تفلح الإصلاحات التربوية في إعطاء لغة الضاد مكانها، بل إن إصلاح 1999 كرس اللغة الفرنسية ومَكَّنَ لها أكثر".
ويرى النائب البرلماني عن الحزب الحاكم الخليل ولد الطيب أن العربية في موريتانيا "لغة جامعة للمجتمع الموريتاني المسلم، فهي لغة القرآن والشعائر الإسلامية، وقد تم ترسيمها بموجب دستور 1991، وما نحتاجه هو إجراءات لترسيمها عمليا من خلال إدخالها في العمل الإداري".
ويقول ولد الطيب في حديث للجزيرة نت إن "التعريب في موريتانيا شهد خطوات متدرجة منذ 1973، وموقف النظام الحالي من العربية إيجابي، لكن المعضل بنيوي نتيجة لتراكمات طويلة".
ويلاحظ أن "خطوات كبيرة قطعت في هذا الإطار، فالخطابات الرسمية تلقى بالعربية، وهنالك وزارات عرفت مستوى جيدا من التعريب كقطاع العدل والشؤون الإسلامية، والداخلية إلى حد ما، لكن هنالك قطاعات أخرى لا تزال الفرنسية مسيطرة فيها بكل أسف".
المصدر : الجزيرة