هذا الذي حدث في آخر محرقة سعودية في صنعاء.. وهذا الشخص الذي حال بيني وبينها..؟

9 أكتوبر, 2016 - 13:10
عبدالكريم المدي

تعطّلت لغة الكلام في أوردتي، خيم صمت أعتقدت أنه يختم أفواه الناس جميعا،بينما كان في حقيقة الأمر المكان ممتلىء بالضجيج والأنين وأنا الوحيد الصامت،الذي لم يتمالك نفسه وهو يقف مشدوها،مصدوما أمام حلقة جديدة من حلقات الـ (هولوكوست)  التي تقومالسعودية في اليمن، وقد اختارت لها هذه المرة، القاعة الكبرى في شارع الخمسين جنوب غرب العاصمة صنعاء.
كانت ألسنة الدخان واللهب تتصاعد أمامي في السماء كشبح أسطوري في أرض يبد للمشاهد في الوهلة الأولى إن قيامتها قامت،ومع دخولي في قلب الفاجعة وإدراكي لهولها ،بدأتُ بفكفكة قيودي النفسية، ولم يطل صمت صمتي وتسمُّر قدمي على دواسة فرامل السيارة ،لأدرك حينها حجم الكارثة وبشاعة المذبحة.
لقد اتسم ذلك المشهد الفظيع بصورتين هما ،الضوضاء الشديدة داخل القاعة وفي مداخلها، والوجوم وهول الفاجعة وإتشاح كل شيء بالسواد .
أجهشت بالبكاء،حاولت أن أمنع عيون الناس من غرزي بالعاطفة،ومنحي قدرا من الرحمة التي تُعطى عادة لأي إنسان أصابه الضعف وقلةالحيلة،أو كُسر خاطره.
لم أكن أحبذ مطلقا أن يراني أحد بتلك الحالة التي أمر بها من الضعف الإنساني، وإن كان ضعفا إنسانيا نبيلا يتجسد فيه شعور راعف لشخص يرى أهله وأحباءه يقتلون ويشردون ويصابون بالعاهات والإعاقات ، ووطنه يتمزق ويستباح، وكرامته تُهان.
والله ،إنني لم أكن أبكي نفسي ،لفرحتي بأنني نجوت من موت أو إعاقة شبه محققين ،إنما  أبكي بكاء قلبي وعقلي ونفسي لحال أؤلئك الذين سبقوني بدقائق قليلة إلى قاعة الموت غير الرحيم بدون أي ذنب.
حاولتُ أن أخفي ملامح البكاء ،ووضعت النظارة الشمسية على عينيّ و( الشال ) على النصف الأسفل من وجهي كي لا يرى الناس دموعي وهي تسيل بغزارة، لكن ذلك لم يفدني بشيء، لأقرّ بهزيمة روحي أمام هذه الحالة الجديدة من نزيف بلدي في واحد من مهرجانات الذبحوالحرق الجماعي لبني وطني على يد بني عروبتي .
يا إلهي لكم خطرعلى بالي حينها أسماء لا حصر لها من رفاقي وأصدقائي وقيادات العمل السياسي الذين بدأت أتفقد بعضهم بالهاتفوالبعض بزيارات خاطفة إلى منازلهم .
وهنا أعترف :
بعد الغارة الأولى ،منحت قيادة التحالف العربي ،المسعفين المتواجدين داخل القاعة وفي محيطها بحدود ربع ساعة كي يتجمع أكبر عدد منهم،ومن ثمّ عاودت قصفهم،وبعدها بدقيقة أو دقيقتين اتى دور المسعفين القادمين من خارج إطار مربع الحدث ، وهم (سيارات الاسعاف والأطقم الطبية وعربات الإطفاء )،الذين قُتل وجرح البعض منهم وعُرقل البعض الآخر لهدف واحد وهو: منعهم  من القيام باسعاف المصابين ،أو حتى التمكن من التعرف على الجثث التي كانت تحترق قبل أن تتفحم وتضيع ملامحها تماما.
كان يوجد في القاعة بحدود (1200) شخص ،جاءوا لتقديم واجب العزاء في وفاة والد الروائي والمثقف ( جلال الرويشان) وزيرالداخلية الذي عينه عبدربه منصور هادي ،الأنبأ الأولية تقول إنه سقط منهم (200) شهيدا،وعلى رأسهم الأستاذ القدير /عبدالقادر هلال ،أمين العاصمة صنعاء ، وجُرح أكثر من (600) آخرين.
المهم  كنتُ مقررا التواجد في القاعة من وقت مبكر ، نظرا لما تربطني من علاقة وصداقة ود مع أبناء وأقارب الفقيد /المناضل الشيخ علي بن علي الرويشان، لكن القدر لم يكن قد اختارني، حيث قيض لي سببا حال دون حضوري المبكر، وتمثل في أحد الأعزاء،الأحب،إلى قلبي،الذي اخرني لمدة ساعة، و تلك الساعة كانت حقيقة بمثابة ميلاد وبداية عمر جديد لي،لهذا أدين له بكثير من حياتي وكل حُبّي.
أخلص إلى القول : بعد هذه الجرائم في تصوري إن من يقف مع العدوان وخيار إستمرارالحرب ، لا يعدو عن كونه إنسان ظالم لنفسه وممعن في شهادة الزور،وحراسة الظلم والظلام ، بسبب إصراره على مواصلة الإنتصار للجلاد على حساب الضحية ،وللموت على حساب الحياة ، وللحرب على حساب السلام.
نتمنى أن تمثل هذه الجريمة البشعة عملية إنعاش للضمير وللأفكار العادلة، الساطعة على مستوى الوطن العربي والعالم ،ونتمنى أن تنتقل أقوال الأميركان والغرب عموما إلى أفعال، يتم من خلالها تزايد الرؤية السلبية للعدوان على اليمن، بما يؤدي إلى  إنهائه.
فلا يكفينا مطلقا ولا يحمي حياتنا التعبير عن القلق الأممي ،أو أي كلام من هذا الذي قاله مؤخرا  الدبلوماسي الأميركي ” دنيس روس″ : ( ما يحدث في اليمن جزء صغير من محاولات السعودية لإظهار أنها تستطيع أن تضع خطوطا حمراء ) ، هذه المواقف والأقوال لا توقف آلة الحرب على اليمن، سيما في ظل إستمرار تزويد التحالف السعودي بالأسلحة والمعدات العسكرية ،اضافة إلى تعطيل أي مشاريع قرارات أممية بتشكيل لجان محايدة للتحقيق في الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها دول التحالف السعوجي وآخرها جريمة الصالة الكبرى.
عبدالكريم المدي
كاتب يمني