بعض الكتاب كمن يكتب لنفسه، فيسطر ما يتمناه ويحبه . يطوع الوقائع وفق ما يشتهي، فإذا تعذر أيجاد مثل هذه الوقائع، فالمصدر الخفي أو المطلع الذي لا يرغب بذكر إسمه موجود تحت إمرته، يلبي متطلبات تحاليله.
عودت نفسي أن لا اضيّع وقتي في قراءة تحاليل تستند على قول مصدر رفض ذكر إسمه، أو تصريح مصدر مسؤول، وبالتالي وجدت نفسي في حل من قراءة الكثير والكثير مما تمتليء به صحافتنا اليوم، لو كنت مسؤولاً في وسيلة إعلامية لفرضت على كل كاتب إخباري عن مصادر معلوماته، ليس إحتراماً لنبل المسؤولية، وإنما إحتراماً لمصداقية الوسيلة الإعلامية.
لو تتبعنا كتابات هؤلاء الذين يعتمدون على مصدر لا يرغب بذكر إسمه، سواء كان هذا المصدر “مسؤول” أم “مطلع″، أو “قريب من موقع الحدث”، فإننا سنجد إستنتاجات مخطوءة، أو تحاليل تكذبها الوقائع، وسنجد أنفسنا أمام وقائع على الأرض على العكس تماماً مما ذكر هذا المحلل أو الكاتب، ورغم هذا وذاك فإننا سنجد مثل هؤلاء الكتاب أو المحللين مصرين على أنهم يبصرون ما لا يبصره غيرهم، ويسمعون ما لا يسمعه غيرهم، وإن ثمة ما هو على الأرض يراه السذج والبسطاء ، وثمة ما هو مخفي ، أو خلف الطاولة يرونه هم وحدهم ، ومن ملك بصيرة متميزة كبصيرتهم .
قبل خمس سنوات، أي منذ بداية الأزمة السورية، كنت مع شخص في وسيلة إعلامية، وكنت أقول أن على السوريين أن يتفاهموا قبل أن يصبح عدد القتلى مائة، لأنهم إن ركبوا رأسهم وإنساقوا إلى ذوي الرؤوس الحامية، فإنهم سيدمرون بلدهم ، وسوف تحل الكارثة ببلدهم مثلما حلت ببلدان أخرى ، وبالنتيجة ، حيث أنه لا يمكن لطرف أن ينتصر على طرف آخر ، لأن طبيعة الصراع ليس بين معارضة وحكم ، وإنما بين محورين قويين ، يبدوان متعادلين ، لن ينتصر أحدهما على الآخر إلا بتغيير شامل للمنطقة، أو حرب كونية ستكون منطقتنا ميدانها ووقودها، وستضطرون في نهاية المطاف، حتى ولو بعد عشر سنوات، بعد تدمير بلدكم، وفقد إستقلالكم، وإستنزاف قدراتكم، وبعد أن يبلغ عدد الضحايا ملايين أن تركنوا إلى الحل التفاوضي..
رد بعصبية : لن نتفاوض مع بشار ، التفاوض مع بشار خيانة .
سألته : خيانة لمن ؟
قال : لدم الشهداء .. قيل حينها أن عدد القتلى في درعا خمسة أشخاص ..
مقابل قولي هذا ذكر السيد مفتوح البصيرة ، إن أيام بشار معدودة ، وأن كل شيء قد إنتهى ، والشعب قال كلمته، وأن ثمة أمور لا أعرفها، لكنه يعرفها تبين أن الحكومة السورية لن تعيش لتحتفل بالعيد القادم ، وكان ما يفصلنا عن العيد بضعة أسابيع، وعندما أخبرته أنني لا أرى مثل هذا المسار على الأرض، قال: أنا أستقي معلوماتي من مصادر موثوقة ، أنا أنقل معلومة ، وأنت تحلل وقائع كما تبدو لك .
وبعد خمس سنوات، حيث أصبح عدد الضحايا بالملايين ، وحيث دمرت سوريا الجميلة ، وتهجرت ملايين من البشر الذين كانوا آمنين، وأضحت سوريا ساحة لتصفية حسابات كونية، وحيث لم يعد مصيرها بايدي أبنائها، وأصبح البلد الذي كان واعداً في خبر كان . جمعني القدر بنفس الشخص، وبنفس الوسيلة الإعلامية، وكانت المعارضة السورية قد كسرت حصار حلب، وبدا من الأخبار التي كانت تتابع أن الجيش السوري ينسحب من الراموسة، والكليات، ومشروع 1070، وهي المناطق التي بالسيطرة عليها من قبل الجيش السوري تم الإعلان عن التطويق الكامل لحلب، وبإنسحابه منها يكون قد تم إفشال تطويق وحصار حلب.
كان صاحبي منتشيا، قال: باتت أيام بشار معدودة .
قلت : هذا ما قلته قبل خمس سنوت!
قال : الوضع مختلف الآن
قلت له أنا أرى العكس، الوقائع تشير إلى أن المعارضة غير قادرة على مسك الأرض، وأن الجيش السوري سيعود من جديد لإمساك الأرض، مدعوماً بغطاء جوي جبار، وإمداد متعاظم، قال بإمتعاض: هذا ما يتراءى لك، نحن لا نلعب، ولم نهزم قوات بشار في الراموسة لنعود فننسحب منها، معلوماتي، ولا حظ أنني أنقل لك معلومات، الخرق سيتسع، سيمتد من بضعة كيلومترات إلى عشرات ومئات، وسنحرر حلب، ثم ستكون هذه هي الضربة القاضية لنظام بشار النصيري، أنت مدعو ياصاحبي لنحتفل معاً بالإنتصار.
ما حيلتي، عند الرجل معلومات من مصادر موثوقة، حلب واقعة واقعة بأيديهم، وهم سيحتفلون بالنصر من قلب المدينة!
بعد بضعة أيام أعاد الجيش السوري السيطرة على الراموسة والهياكل، والكليات، ثم مخيم جندرات، ثم الفرافرة ، ومازال يواصل تقدمه في أحياء حلب الجنوبية .. ثم أصبحت المعارضة تطلب نجدة المجتمع الدولي من هول القصف الجوي .
خمس سنوات، و نموذج محلل المعلومات هذا لم يتعب ولم يمل.. خمس سنوات كان بالإمكان أن تكون الدورة الأخيرة لبشار في الحكم لو تم الاتفاق من الأول على مثل هكذا حل .. ولو تم الإتكال على الشعب، لا على قوى الخارج.
صباح علي الشاهر
كاتب عراقي
راي اليوم