شكل تغير المناخ أحد أكبر الأخطار على السياحة، التى تعتبر من أهم القطاعات الاقتصادية وأسرعها نمواً، وهى تولد 9 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى العالمى وتوفر وظيفة واحدة من كل 11 وظيفة. وفى حين يلحق سوء الإدارة الضرر بالمواقع السياحية، فإن تغير المناخ يضاعف خطر خسارة الميزات التى تجعل هذه المواقع وجهات جذابة للسياح.. "التراث العالمى والسياحة فى مناخ متغير" تقرير صدر حديثاً عن منظمة اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة و"اتحاد العلماء المهتمين" فى الولايات المتحدة.
وهو يدرج 31 موقعاً للتراث العالمى الطبيعى والثقافى فى 29 بلداً، تتعرض لتأثيرات ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الكتل الجليدية، وارتفاع مستويات البحار وابيضاض الشعاب المرجانية واشتداد الأحداث المناخية، وتفاقم موجات الجفاف واستطالة مواسم حرائق الغابات.
ويوثق التأثيرات المناخية فى مواقع سياحية شهيرة، مثل مدينة البندقية فى إيطاليا وستونهنج فى بريطانيا وجزر جلاباجوس فى الإكوادور ومدينة قرطاجنة فى كولومبيا، ومتنزه شيريتوكو الوطنى فى اليابان. ويتناول التقرير ثلاثة مواقع للتراث العالمى فى المنطقة العربية، هى وادى قاديشا وغابة "أرز الرب" فى لبنان، ووادى رم فى الأردن، وقصور وادان وولاتة وتيشيت فى موريتانيا، واصفاً مزاياها وعارضاً الأخطار التى تواجهها من تأثيرات تغير المناخ.
وادى قاديشا وغابة الأرز فى لبنان
يعتبر وادى قاديشا فى شمال لبنان نموذجاً لمواقع عاشت فيها مجتمعات منذ القدم ومارست طقوساً فى نسيج بيئتها الطبيعية. أولئك الذين أقاموا هناك فى الأديرة والمناسك الكثيرة، التى يعود بعضها إلى نحو ألفى سنة، أرادوا التقرب من الخالق فى أحضان طبيعة نائية وعرة، من منحدرات شاهقة وشبكات كهوف طبيعية اتّخذوها ملاذات لهم. لكن تغير المناخ والنشاط السياحى يزيدان الضغط على المعيشة التقليدية والنظم الإيكولوجية فى وادى قاديشا. وتنحصر غابة الأرز الشهيرة عالمياً ضمن بقعة صغيرة لا تتعدى مساحتها هكتارين وتعرف بغابة أرز الرب. وهى تضم أقدم وأكبر أشجار الأرز المعروفة، فمن نحو 375 شجرة متبقية، يفوق عمر اثنتين 3000 سنة، فيما يزيد عمر عشر أشجار على 1000 سنة، ومنها أربع يزيد عمرها على 1500 سنة. والغابة قريبة من بلدة بشري، التى تعتبر من مراكز التزلج الرئيسة فى لبنان، على منحدر جبلى تعرّت أرضه بفعل الرعى الجائر لقطعان الماعز.
السياحة عنصر مهم فى الاقتصاد اللبنانى. وعلى رغم أن الاضطراب السياسى أدى إلى انخفاض كبير فى عدد السياح منذ الذروة التى سجلها عام 2009، فقد ساهمت السياحة فى 25 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد عام 2012. وفى العام 2000، زار الغابة أكثر من 200 ألف سائح أى 20 فى المائة من زوار لبنان ذلك العام.
لأرز لبنان (Cedrus libani) قيمة روحية منذ القدم، وقد ورد ذكره 103 مرات فى العهدين القديم والجديد، بما فى ذلك المزمور 104:16 الذى جاء فيه أن «الرب زرعه، وهو الذى يرويه». والأهمية الروحية لأرز وادى قاديشا تمتد أبعد كثيراً من المجتمعات المحلية. فقد استخدم خشبه فى بناء المعابد فى أنحاء المشرق، بما فى ذلك هيكل سليمان فى القدس الذى بنى فى القرن العاشر قبل الميلاد.
وخشب الأرز مرادف أيضاً لطموحات الفينيقيين القدماء الكبيرة فى بناء السفن وركوب البحار. وهو مطلوب منذ نحو 5000 سنة فى منطقة البحر المتوسط لمتانته وديمومته. وقد أقبل الأقدمون على استخدامه كمادة بناء، مما جعل غاباته الكبيرة فى لبنان تتلاشى بحلول القرن السادس، وفق مصادر تاريخية تعود إلى زمن الإمبراطور البيزنطى جوستنيان الأول (482 – 565م)، واستمرت غاباته فى التقلص على مرّ القرون، ولم يبق حالياً إلا 5 فى المئة من مساحتها الأصلية.
ويتوقع أن يستمر انخفاض أعداد أشجار الأرز نتيجة تغير المناخ. والتوقعات مبنية على التحليل الجينى ودراسة حبوب اللقاح التى تلقى الضوء على حقبات سابقة من التغير المناخى الكبير، مثل فترة الانتقال من العصر "بين الجليدى" الأخير إلى العصر الجليدى الأخير قبل نحو 15 ألف عام، ومن العصر الجليدى الأخير إلى عصر الهولوسين المبكر قبل نحو 12 ألف عام.
يتوقع الباحثون أن يؤدى تغير المناخ إلى حصر تجمعات الأرز اللبنانى فى ثلاثة ملاذات فقط بحلول عام 2100، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة والإجهاد المائى الناجم عن انخفاض الرطوبة فى منطقة البحر المتوسط. وفى حين تستطيع التجمعات النباتية الأخرى التكيف مع تغير المناخ بالزحف إلى ارتفاعات أعلى، فإن غالبية غابات الأرز فى لبنان معزولة أصلاً على قمم الجبال أو قربها، فلا مكان أعلى للانتقال إليه. لكن غابة "أرز الرب" فى وادى قاديشا استثناء لهذه القاعدة، وهى إحدى ثلاث غابات أرز يتوافر لها موئل أعلى لانتقال محتمل، مما يجعل حمايتها أكثر إلحاحاً.
كما يتوقع أن تتغير المنطقة المناخية الحيوية لغابة أرز الرب، ما يؤثر فى توزعها وتركيبة أنواعها. وقد ازدادت هجمات الحشرات، يؤججها ازدياد الجفاف والقحل، فباتت تؤثر بالفعل على غابتى الأرز فى تنورين والشوف، وتهدد بالانتشار إلى أرز الرب. هناك حالياً فى لبنان أكثر من 12 غابة أرز تقع على ارتفاعات تتراوح بين 1100 متر و1925 متراً على السفوح الغربية لسلسلة جبال لبنان، ويحتل معظمها مساحة تقل عن 100 هكتار. وهى مناطق ذات تنوع بيولوجى كبير تؤوى أنواعاً نباتية مستوطنة ومهددة بالزوال. وأرز لبنان مدرج كنوع سريع التأثر على القائمة الحمراء للاتحاد الدولى لحماية الطبيعة (IUCN).
وادى رم تحفة الأردن الصحراوية
وادى رم موقع صحراوى مميز فى جنوب الأردن، يزخر بالممرات الضيقة والأجراف العالية والكهوف والقناطر الطبيعية والمشاهد الخلابة. وقد أُدرج على قائمة اليونسكو كموقع للتراث العالمى لقيمته الطبيعية والثقافية.
تبلغ مساحة وادى رم نحو 300 كيلومتر مربع، ويحوى أكثر من 45 ألف منحوتة ونقش صخرى يعود تاريخها إلى 12 ألف سنة خلت، ما يساعد فى الإضاءة على نشوء المجتمعات الرعوية وتطور الأبجدية. وهو ملاذ مهم للأحياء البرية الصحراوية، بما فيها الصقر الأسخم والوعل العربى والمها العربى الذى أعيد توطينه. وكثير من نباتاته مصادر مهمة للغذاء وعلف الماشية والأدوية للبدو المحليين. لكن السياحة غير المنظمة، بما فى ذلك قيادة المركبات خارج الطرق، ومواقع التخييم غير الشرعية، والتجول من دون أدلاء، والكتابة على الصخور، وتأثر الثقافة المحلية بأكثر من 300 ألف سائح يزورون هذه المنطقة النائية سنوياً، تلقى جميعاً بثقلها على وادى رم.
ووفقا لجريدة "الحياة" فمن المتوقع أن يزيد تغير المناخ هذه المشكلات. فارتفاع الحرارة وازدياد الجفاف سيؤديان إلى تفاقم الاجهاد المائي، وسيشكلان خطراً فى شكل خاص على الأنواع الحية المحصورة فى الأماكن الجبلية العالية فى وادى رم. وهناك حاجة ملحة إلى بحوث مفصلة حول سيناريوات تغير المناخ فى الوادى.
المدن القديمة فى موريتانيا
"قصور" وادان وشنقيط وتيشيت وولاته مدن قديمة فى موريتانيا كانت مراكز تجارية وثقافية مهمة على طرق القوافل عبر الصحراء الأفريقية الكبرى فى العصور الوسطى. وهى ضمن مواقع التراث العالمى لدى منظمة اليونسكو.
اشتهرت شنقيط بمسجدها ذى المئذنة المربعة التى بنيت بحجارة من دون ملاط. وتعتبر سابع المدن المقدسة فى الإسلام. وهي، مثل القصور الأخرى، مقصد تاريخى للزوار الذين يجلبون دخلاً حيوياً للسكان المحليين. السياحة فى موريتانيا متخلفة جداً، وزاد فى مشاكلها خلال السنوات الأخيرة القلق على أمن المسافرين. وقصور موريتانيا، التى كانت فى الماضى مراكز للثقافة البدوية والإسلامية فى شمال أفريقيا، يتهددها حالياً زحف الصحراء.
الشوارع والساحات فى شنقيط التى عرفت بمكتبتها القديمة الغنية بالكتب والمخطوطات الإسلامية، تختنق بالرمال إذ تزحف الكثبان داخل المدينة. وقد يتلف الرمل والحر الشديد الأبنية القديمة، وتهدد العواصف المطرية الهوجاء العمارة الطينية وتزيد تآكل التربة.
ويفاقم التصحر فى منطقة "الساحل" المشكلة، ومن أسبابه الرعى الجائر وإزالة الغابات والتوسع الحضري، إضافة إلى موجات الجفاف الحاد الطويلة الأمد والهطول الغزير حين تمطر، ما يزيد الضغوط الحالية والنزاعات على الموارد الطبيعية.