
في سبعينات القون الماضي حذر مفكرون وأكاديميون أمريكيون إدارتهم من عدم مراعاة التوازن بين ما هو علمي وما هو إنساني، وذلك من خلال الدراسات الجامعية ومراكز الأبحاث،
ومنهم من استشهد بالاتحاد السوفييتي الذي عانى من خلل في هذا المجال، واستمر السجال بعض الوقت، ثم بدأ العمل جدياً على إعادة النظر في المساحة التي تشغلها العلوم الإنسانية، وقد أصبح من المؤكد أن مثل هذا الخلل قد يؤدي إلى نتائج كارثية، ويهدد البعد الأخلاقي بحيث تتراجع الكوابح لحساب التغول المادي، فالتكنولوجيا خادمة للإنسان، لكنها أحياناً تصبح هي المخدوم وتنقلب المعادلة، ولعل هذا ما دفع شاعراً أمريكياً في تلك الأيام إلى أن يخلي منزله من كل ما له صلة بالتكنولوجيا، وكتب ساخراً أن تلك المنجزات احتلت فضاء المنزل، ولم يعد يجد له مكاناً بينها بحيث أصبح الطارئ.
وما يحدث الآن في عالمنا من فقدان للبوصلة الأخلاقية، وعودة التوحش قد يكون أحد أسبابه الاستخفاف بما هو إنساني، بل التعامل مع هذا الجانب الروحي كما لو أنه من فلول الرومانسية التي طردها الواقع إلى غير رجعة.
وهناك مقولات تتكرر عبر الميديا حول التربية وتحصين الوعي وتجفيف مستنقعات التطرف تبقى مجرد حبر على ورق إذا لم توضح للرأي العام على نحو ينقلها من النظري المجرد إلى الواقعي المحسوس.
وكما أن هناك أمية بالمعنى الأبجدي ، هناك أيضاً أميات أخرى منها السياسي والأخلاقي والتاريخي، وهذا ما يفسر ما توصلت إليه بعض الاستطلاعات حول طلاب الجامعات، فقد كانت بعض إجاباتهم على أسئلة من صميم الواقع مثيرة للسخرية وكأنهم يعيشون في عالم آخر.
والعلم في حد ذاته يحتاج إلى ضوابط تحدد رسالته، كي لا يتورط في تطوير وتحديث أدوات وأساليب التعذيب وتبرير الأخطاء، ولدينا أمثلة حية في العديد من الدول، التي خسرت الكثير بسبب الخلل الناجم عن عدم التوازن بين التكنولوجيا والثقافة، لأن التحليق بجناح واحد حتى لو كان من فولاذ يبقى مهدداً بالسقوط وعدم القدرة على مقاومة الجاذبية.
خيري منصور
