تواجه منطقة الساحل الإفريقي تحديات أمنية وتنموية تهدد استقرارها باستمرار، وزاد من خطورة تلك التحديات، تصاعد تهديدات الجماعات الإرهابية المتطرفة في عدد كبير من دولها، وأكد مجلس الأمن الدولي في آخر تقرير له حول" السلم والأمن في أفريقيا" أن التهديدات الأمنية ما زالت تحدق بالمنطقة بشكل متزايد، وهو ما دفع ببعض الدول التي تعتبر الأفقر في العالم، إلى تخصيص نسب كبيرة من ميزانياتها لمعالجة تلك التهديدات، وعلى الرغم من أن منطقة الساحل الأفريقي ظلت إلى وقت قريب منطقة مهمشة إستراتيجيا واقتصاديا وسياسيا، الا أنها أضحت في السنوات الأخيرة تحظى باهتمام كبير من القوى الدولية، وتتطلب مواجهة التحديات التنموية فيها الى تنسيق جهود دولها، بالإضافة لزيادة مساعدات المنظمات الدولية للرفع من مستوى المناطق المهمشة والنائية حتى يتم الحد من تنامي الجماعات الإرهابية التي وجدت حواضن اجتماعية يميزها الفقر والتهميش وانعدام التنمية، ما حدا بمختصين في شؤون المنطقة الى اطلاق تحذير من جماعة «بوكو حرام» والجماعات الإرهابية الأخرى التي تقوم بتجنيد الشباب، في الوقت الذي كشفت فيه تقارير للمنظمات الإنسانية ان الهجمات التي تقوم بها «بوكو حرام» في حوض بحيرة تشاد، والعمليات المضادة لها من قبل جيوش دول المنطقة، أجبرت أكثر من مليونين ونصف المليون من السكان، على الفرار من ديارهم، وهو رقم تضاعف ثلاث مرات خلال شهر واحد بحسب تقارير المنظمات، بينما أماطت إحصائيات حديثة صادرة عن البنك الدولي اللثام عن معاناة 60% من الشباب في بلدان الساحل من البطالة والتهميش، وبدورها قدرت الأمم المتحدة الشهر الماضي حجم المساعدات التي تحتاجها الدول التسع الواقعة في حزام شبه جاف يمتد من السنغال إلى تشاد بملياري دولار أمريكي، حتى يتسنى لها مجابهة الأزمة ذات الأبعاد الثلاثية من فقر وقسوة المناخ وانعدام الأمن.
فرنسا تدعو لـ «تعاون نموذجي»
ومع تأكيد التزام الاتحاد الإفريقي خلال ملتقى "مبادرات التنمية للاتحاد الإفريقي في الساحل وآفاق تفعيل اتفاق السلم والمصالحة في مالي الذي عقد في نوفمبر بالجزائر، على العمل لتحقيق التنمية في المنطقة من خلال التركيز على المحاور الأساسية الثلاث المتمثلة في "الحكامة والتنمية والأمن".
دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، في ختام لقاء مع نظيره البوركيني، منذ أيام، إلى "تعاون نموذجي" على الصعيد الأمني مع مجموعة دول الساحل الخمس التي تعرضت في الأشهر الأخيرة لمجموعة من الهجمات الإرهابية.
وأكد هولاند، في مؤتمر صحافي الى جانب الرئيس روش مارك كريستيان كابوري: «يجب أن نقيم مع بلدان مجموعة دول الساحل الخمس تعاوناً نموذجياً على الصعيد الأمني وتبادل المعلومات والتنسيق الاستخباري». وتضم مجموعة دول الساحل، بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد التي يقوم فيها #الجيش الفرنسي بعملية «برخان» لمكافحة الإرهاب، ومعروف ان فرنسا تعرضت لمجموعة من الهجمات الإرهابية. وشدد الرئيس الفرنسي من جهته على ان "الإرهاب يمكن أن يضرب في كل الأماكن"، وخصوصاً تلك المجاورة لبلدان تنتشر فيها مجموعات مسلحة، ضاربا المثل بشمال مالي.
وكانت واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو قد تعرضت في الخامس عشر من يناير للعام الجاري، لهجوم إرهابي استهدف فندقاً ومطعماً وحانة ما أسفر عن وقوع ثلاثين قتيلاً وسبعين جريحاً. وذكر الرئيس الفرنسي أن قوة "برخان" الفرنسية التي يشارك فيها ثلاثة آلاف رجل في إطار مجموعة دول الساحل الخمس، "هي تحت تصرف البلدان التي تقدم طلبا" للحصول على مساعدتها، لكنه اشار إنه على هذه البلدان أن تدرك ضرورة بذل المزيد من الجهود لتنظيم أمنها بقواها الذاتية. وأشاد هولاند على صعيد آخر، بانتخاب نظيره البوركيني "في ظروف تشرف الديموقراطية"، في "انتخابات اتسمت بالشفافية والتعددية" كما قال، حتى لو كانت تلك "العملية طويلة وشابتها الفوضى"، بحسب ما قال.
اهتمام أمريكي
من جانبهِ، قال رئيس بوركينا فاسو «إنه على الرغم من العملية الديموقراطية التي نقوم بها، الا أننا حريصون على اعتبار مسألة الإرهاب عنصراً دائماً في شؤون بلداننا»، مشدداً على ضرورة تبادل الوسائل "العسكرية والاستخباراتية" لمجموعة دول الساحل الخمس، وكشف أنه "طلب من فرنسا الاستمرار" في تقديم دعمها "من خلال تدريب" الجنود وتجهيز القوات الخاصة المحلية بالمعدات، وتقديم المساعدات لمواجهة الصعوبات.
والجدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية زداد اهتمامها بالأوضاع في الساحل الإفريقي منذ منتصف العام المنصرم، واستفادت من ذلك كل من مالي والصومال عبر تقديم أمريكا لمساعدات قدرت بـ 5 مليارات دولار، خصصتها واشنطن ضمن "تدريب قوات دول أجنبية على مواجهة الإرهاب". كما مولت الإدارة الأمريكية برنامجا للتعاون الأمني بقيمة خمسمائة مليون دولار، تحت بند "مبادرة محاربة الإرهاب عبر الصحراء" التي تشمل العديد من الدول الإفريقية. وبحسب خبراء فان دعم الاتحاد الأوروبي لدول الساحل الإفريقي الخمس، اقتصر حتى الآن على مستوى التنسيق الأمني، بتقديم خمسين مليون دولار، موجهة للقوة المتعددة الجنسيات المشتركة في مكافحة "بوكو حرام"، وتعزيز البعثة الأوروبية في النيجر، من خلال وجود دائم لها بداية عام 2016، كما ستقوم مع البعثة الأوروبية المتمركزة في مالي بدورات تدريبية لقوات #الشرطة تشمل كافة دول الساحل. ويقول محللون سياسيون إن الوجود العسكري الأجنبي في القارة، آخذ في التصاعد، متخذا شكل قواعد عسكرية، ومراكز للاستطلاع، وتقديم خبراء لتدريب القوات الوطنية، بالإضافة إلى ما تردد عبر تقارير صحفية عن اجتماعات بين مسئولين عسكريين أمريكيين وشركات متخصصة في تشييد المنشآت العسكرية.
ويرى محمد محمود ولد المختار الخبير بالشؤون السياسية "أن التعقيدات التي ترتبط بكيفية مقاربة الأزمة الأمنية بشمال مالي ومنطقة الساحل، والتي على دول الجوار نهجها لوقف زحف الجماعات الإرهابية وتوسع انتشار السلاح بالمنطقة، هي مثار تضارب كبير في المواقف، إذ برز هذا الأمر بشكل جلي من خلال آخر اجتماع للجنة قيادة أركان الجيوش خلال العملية المشتركة في أواخر عام 2015، والتي تضم كلا من مالي والجزائر وموريتانيا والنيجر، والذي انعقد في الجزائر، كما برز من خلال المواقف التي عبرت عنها البلدان الغربية وعلى وجه الخصوص فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وشدد الخبير على أن اجتماع لجنة قيادة أركان جيوش الدول الأربع سالفة الذكر، والذي خصص لبحث مستجدات الأوضاع الأمنية بالمنطقة المرتبطة بالتهديدات الخطيرة التي أصبح يمثلها الانتشار الواسع للجماعات المتشددة المسلحة، لم يحسم في أمر السيناريو الذي يجب تتبناه لمواجهة الأزمة التي كادت أن تعصف بالمنطقة، والتي من المحتمل في حال أي تهاون، أو عدم تنسيق جدي أمنيا واستخباراتيا، أن تمتد شرارتها إلى بلدان الجوار، بل وظهر تباعد في التصور لدى مكونات هذه اللجنة، فيما يختص بطبيعة وفحوى المقاربة التي يجب اعتمادها بدعم من دول غربية، وذلك كإجراء ضروري وعاجل لوضع حد لانتشار وتوسع هذه الجماعات في المنطقة.
المغرب: تشريعات وخطط أمنية
وتشير المعلومات المتاحة وفقا لولد المختار، إلى أن العسكريين المحترفين في هذه الدول يقرّون بأن مفتاح القضاء على الإرهاب في المنطقة يتلخّص في عنصرين هما: منع الخارجين عن القانون من التزود بالوقود والمياه، ومباشرة عمليات مراقبة جوية وغارات ضد تجمعات الإرهابيين، على أن تبنى على معلومات أمنية مؤكدة. وهو استنساخ للتجربة الجزائرية، التي قامت بتنفيذ خطة أمنية محكمة لحماية ترابها الوطني من التوترات على الحدود، من خلال العمل مع دول الجوار، وإجهاض المخططات الإرهابية التي تمر من خلالها، فضلا عن تجفيف منابع تموين الجماعات الإرهابية، هذا بالإضافة إلى جهودها الأخرى للقضاء على ما تبقّى من فلول الإرهاب في الداخل.
وبالنسبة للمغرب فقد تم وضع تشريعات، وخطط أمنية، حيث قامت المغرب بسن قوانين لمواكبة التحديات الناتجة عن التهديدات الإرهابية والإجرامية، مثل سن القوانين التي تجرم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والإشادة به، والدعاية لقادته، وكذالك تجريم الالتحاق أو محاولة الالتحاق بكيانات أو تنظيمات إرهابية. وعلى الصعيد الأمني فقد تمت تعبئة الجهود للتصدي لكل جديد، وقد مكنت هذه الآلية منذ أحداث الدار البيضاء التي جرت في العام 2003، والتي شهدت فيها سلسلة من الهجمات المتزامنة استخدمت فيها الأحزمة الناسفة، وأوقعت عددا كبيرا من الضحايا، تمكنت بعدها الدولة من تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية، سواء تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة أو الموالية لها، أو المتخصصة في تجنيد وإرسال المقاتلين إلى بؤر التوتر والصراع.
من جهته يرى الإعلامي الطالب ولد إبراهيم أن تجربة موريتانيا أثبتت نجاعتها من خلال عقد قمة للاتحاد الإفريقي على مستوى الرؤساء، في عام 2014، وسميت بـ"مسار نواكشوط"، وذلك بالتنسيق مع مجلس الأمن الدولي وكل المبادرات والاستراتيجيات الإقليمية والدولية المهتمة بإشكالية الأمن والتنمية في منطقة الساحل، حيث تمثل الهدف في تنسيق الجهود الإقليمية بين الدول الأعضاء في مجال تحقيق الأمن ودعم مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية بينها.
وناقشت القمة إشكالية الأمن والتنمية، وهو ما اعتبر مكسبا للدبلوماسية الموريتانية التي برهنت على مدى حيويتها وقدرتها على لم شمل هذه البلدان الإقليمية. وكما ترأست موريتانيا ورعت فكرة إنشاء هذا التجمع، كانت سباقة كذلك إلى احتضان ورعاية تجمع إقليمي آخر بنفس الأهداف والتوجهات، وهذه المرة من خلال تجمع "دول الساحل الخمس" (موريتانيا-مالي-بوركينافاسو-تشاد-النيجر)، والذي احتضنت نواكشوط قمته الثانية في نفس الفترة، لتقييم إنجازات العمل الذي بدأ بعيد القمة التأسيسية للتنسيق والتعاون الإقليمي .
نجاح الإستراتيجية الموريتانية
ووجد المؤتمرون في قمتي "مسار نواكشوط"، وقمة "دول الساحل الخمسة" أنفسهم أمام تجربة موريتانية رائدة في هذا المجال، تتأسس على أبعاد يشكل تطبيقها بشكل كلي حلا سحريا لاجتثاث الإرهاب من جذوره، وهو ما برهنت عليه النتائج الإيجابية التي حققتها موريتانيا منذ اعتمادها لهذه المقاربة، والتي قد تكون ساهمت في احرازها لهذه المنزلة الدبلوماسية التي جعلت منها مرجعا إقليميا ودوليا في محاربة الإرهاب. وتركزت المقاربة الموريتانية على إستراتيجية متكاملة ومتعددة الجوانب، تأخذ في الحسبان البعد العسكري البحت، واعتماد نهج الحوار والربط بين التنمية والأمن، فحيثما فقدت التنمية وجد الإرهاب، وحيثما دحر الفقر والتخلف اختفى.
وعلى المستوى العسكري، فقد تم تجهيز وحدات روعيت فيها معايير تناسب طبيعة الموقف، تتمثل مهمتها في التحرك بسرعة وباستمرار على الحدود لمنع تسلل فلول العصابات الإجرامية إلى داخل الأراضي. بيد أن الحدود التي يصل طولها إلى قرابة 2600 كلم بين موريتانيا ومالي مثلا، جعلت السلطات الموريتانية تضع إستراتيجية جديدة تعتمد على التنسيق في مجال الاستخبارات، وعلى المراقبة الجوية المكثفة وتحصين الحدود، وكذلك الضربات الاستباقية ومباغتة العدو ومهاجمته في أوكاره. وإلى جانب ذلك تم تحسين الوسائل المادية والبشرية لأفراد الأسلاك المختلفة باقتناء معدات وتجهيزات تزيد من فاعليتها، كما تلقى الأفراد تحسينا في خبراتهم من أجل القيام بمهامهم على أحسن وجه، وذلك على المستويين العسكري والأمني. وأقيمت كذلك عدة ندوات دولية ووطنية لمكافحة التطرف الديني، سعت إلى تبيين الصالح من الطالح. وكان لها دور بارز في مجابهة هذا الغلو، وتوضيح الرؤية الدينية الصحيحة في أذهان الشباب.
وفي السياق يقول الدكتور اسحاق الكنتي "إن ما يميز المقاربة الموريتانية لمعالجة ظاهرة التطرف هو إدراك القائمين عليها أن التدين ليس مصدرا للتطرف، بدليل أن الموريتانيين مجتمع عرف عبر التاريخ بتدينه، ولم تظهر فيه دعوات متطرفة، وإنما جاء التطرف من مصادر خارجية تقترح أنماط تدين لم تكن معروفة لدى الجمهور، فركزت الدولة على تعزيز مظاهر التدين التي ألفها الناس." وأضاف: إدراك القائمين على المقاربة الموريتانية لمعالجة ظاهرة التطرف أن البعد الدنيوي يمثل المسكوت عنه في أيديولوجيا المتطرفين، وإن ظهر بشكل جلي في نشاطاتهم، فبادرت إلى إطلاق الحريات العامة، وإعادة توزيع الثروة ليشترك كل الموريتانيين في ثمارها، مع تمييز إيجابي لصالح الفئات الهشة، وإعطاء دور أكبر في إدارة الشأن العام، والوظائف العليا في الدولة، للشباب والنساء بحسب تعبيره.
وهكذا تتبلور مخططات دول الساحل الإفريقي في مجال الأمن والتنمية بين شد وجذب، لتلقي ظلالها على واقع متحرك يشبه رمالها الصحراوية لا يثبت على حال، وإن أثبتت التجربة في أغلب الأحوال نجاعة سيطرة الأقوى على أرض المعركة.