تربط الحكومة الموريتانية عجزها عن تطبيق خطط التنمية الشاملة بوجود قرى عشوائية لا تضم الكثير من السكان. لكنّ البعض يؤكد أنّ الدولة هي بالذات السبب خلف نشوء ظاهرة تلك القرى التي تتزايد عاماً بعد عام
تحاول السلطات الموريتانية جاهدة التخلّص من ظاهرة "التقرّي العشوائي" لما لها من تأثيرات سلبية على الخدمات العامة المقدمة إلى سكان الريف. فقد أدى استيطان قرى صغيرة مشتتة إلى حرمان نسبة كبيرة من سكان موريتانيا من التعليم والصحة، وبقائهم محاصرين بالحياة البدوية.
إذا كانت تأثيرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الريف الموريتاني قد تسببت في ارتفاع نسبة النزوح باتجاه المدن، فإنّ هذه الأوضاع أدت أيضاً الى نشوء قرى صغيرة مترامية وتحوّل أخرى إلى قرى ذات تعداد سكاني قليل.
تشير الدراسات إلى أنّ ظاهرة "التقرّي" العشوائي ازدادت في السنوات العشر الأخيرة، بالترافق مع عجز الدولة عن توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة لسكان تلك القرى. وتسبب تشتت جهود الدولة في توفير الخدمات الأساسية إلى زيادة مستوى الأمية والفقر الذي أصبح يمس أكثر من ثلثي السكان.
تشهد موريتانيا استقراراً سكانياً كبيراً منذ 40 عاماً، فقد تناقصت بشكل ملحوظ نسبة الرحّل، بعدما كانت تشكل 87 في المائة من السكان، وذلك بتأثير من التحضّر وتوالي سنوات الجفاف. مع ذلك، فإنّ العشوائية التي ميّزت استقرار الرحّل خلقت متاعب كبيرة للقرويين وأنتجت أوضاعا اجتماعية واقتصادية هشة. فقد أنشأت كلّ مجموعة من البدو قرية خاصة بها. ومع استمرار تدهور الظروف المعيشية في الريف نتيجة للتغيّرات المناخية التي أثّرت بشكل ملموس في الرعي والزراعة، أصبحت هذه القرى تنتشر بشكل عفوي ومتباعد في السهول والأودية. وازداد عدد القرى في الريف الموريتاني بشكل كبير من 15 قرية عام 1956 إلى نحو 2300 قرية في الوقت الحالي. ونتيجة للتطور السريع لظاهرة "التقري"، فإنّ أغلب هذه القرى لم تنل حقها من مشاريع التنمية، وظلت الحكومات المتعاقبة تتذرّع بعدم توفر القرى على المعايير المطلوبة لإنشاء المدارس والدوائر الصحية والمائية، ولا حتى لإنشاء الطرقات.
في هذا الإطار، يقول الباحث الاجتماعي محمد أحمد ولد الداهي، إنّ التزايد الكبير في أعداد القرى وتشتتها يشكل عقبة كبرى أمام مشاريع التنمية. يضيف: "ظاهرة التقري العشوائي خلقت قرى ضعيفة الاندماج وصغيرة الحجم، فربع القرى يقطن فيها أقل من 500 نسمة للقرية الواحدة. في الوقت نفسه، فإنّ كلّ هذه القرى في حاجة إلى بنية تحتية وتجهيزات وخدمات".
يعتبر ولد الداهي أنّ الدولة مسؤولة عن هذا الوضع، لأنها شجعت بطريقة غير مباشرة ظاهرة "التقري" العشوائي عقب سنوات الجفاف، حين سمحت بإنشاء قرى في أملاك عامة، من دون أن تصدر قوانين تنظم إنشاءها. كما أهملت ظاهرة "التقري" في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى وفّرت التجهيزات والخدمات لقرى تسكنها القبائل القوية، التي تمثل مجموعات ضغط، كنوع من ضمان الولاء وكسب الود.
عن أوضاع تلك القرى، يؤكد ولد الداهي لـ"العربي الجديد"، أنّ 70 في المائة من القرى تعاني من العزلة والتهميش بسبب غياب التجهيزات الأساسية كالطرقات والكهرباء والماء الصالح للشرب والمراكز الصحية والمدارس. يشير إلى أنّه على الرغم من ازدياد عدد القرى بمعدل 63 قرية كلّ عام، فإنّ أحجامها تتفاوت من قرى متوسطة إلى قرى لا تضم سوى أسر قليلة.
يدعو ولد الداهي الحكومة إلى انتهاج استراتيجية جديدة تعمل على تجميع هذه القرى وتغطيتها بالتجهيزات الضرورية، وإصدار قانون إنشاء القرى على أساس المعيار السكاني. كما يحذر من خطورة إهمال ظاهرة "التقري" العشوائي وانعكاساتها على السكان المحرومين من البنى الأساسية، وكذلك انعكاساتها السلبية على البيئة والغابات ومخزون الآبار والوديان بسبب الاستغلال العشوائي للمياه في بعض القرى. ويشير إلى أنّ إهمال الظاهرة قد يتسبب في صراعات قبلية في مناطق الرعي والمياه والزراعة، بسبب سيطرة بعض المجموعات على المناطق الخصبة.
من جهتها، دعت الحكومة في العديد من المناسبات السكان إلى التوقف عن الفوضى العمرانية والعشوائية. لكنّ هذه الدعوات لم ترافقها إجراءات عملية، أو مخططات لتنفيذ الاستراتيجية الحضرية التي تقول الحكومة إنّها تهدف إلى تشجيع التجمعات الكبيرة في القرى وإقامة مدن عصرية تستقطب السكان في محيطها وتحد من الظاهرة.
كذلك، هاجم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، في آخر زيارة له إلى بعض القرى الصغيرة، ظاهرة "التقري" العشوائي، واعتبر أنّ هذه النزعة الفردية أثقلت كاهل الدولة وعرقلت جهود التنمية وحالت دون تنفيذ الخدمات الأساسية للمواطن. وأكد أنّ الدولة لا يمكن أن توفر الخدمات للمواطن ما دام كلّ زعيم قبلي أو فرد أو مجموعة تنعزل بنفسها وتطالب بعدها بتوفير الخدمات الضرورية للحياة.
نواكشوط ــ خديجة الطيب
العربي الجديد