اثارت الزيارة الاخيرة للدبلوماسي الصحراوي السابق البشير مصطفى السيد الى موريتانيا الكثير من الاسئلة حول الاهداف المعلنة والخفية والظرفية الراهنة وكذا الصفة التي حملها المسؤول الصحراوي كمبعوث شخصي لرئيس الدولة، في ظل حديث عن ازمة صامتة بين المغرب وموريتانيا منذ اكثر من اربع سنوات، عنوانها الابرز رفض موريتانيا تعيين سفير لها في الرباط.
إذ ان الزيارة لم تقتصر فقط على تأبين فقيد الشعبين احمد بابا مسكة، بل امتدت لتشمل الطيف السياسي بموريتانيا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، حيث حاول المبعوث الشخصي للرئيس الصحراوي لقاء كافة القوى السياسية المؤثرة في البلد بداً من الرئيس ولد عبد العزيز، مرورا باحزاب المولاة واطياف المعارضة السياسية التي اجمعت على ان مصلحة الصحراويين من مصلحة موريتانيا، وان امنها واستقرارها من امنهم واستقرارهم، ينفعها ما ينفعهم ويضرها ما يضرهم.
وشكلت لقاءات زعماء قوى التقدم والتحالف الشعبي وحزب الاسلاميين المعارض “تواصل” وحزب الاتحاد من اجل الجمهورية الحاكم محطات مهمة في معرفة مواقف هذه القوى السياسية التي يحتاج الشعب الصحراوي الى دعهما ومساندتها، في بلد يعتبر امتداد لمجتمع البيظان وعمق ثقافي يتقاسم مع الشعب الصحراوي روابط التاريخ، وتماس الجغرافيا التي لم تخلو من علاقات النسب والمصاهرة التي نسجت صلة الارحام بين الشعبين الشقيقين على مدار العقود الماضية.
الرجل الذي وقع اتفاق السلام مع الجارة موريتاينا في الخامس من أغسطس عام 1979وتحسب له انتصارات دبلوماسية كبيرة حققتها جبهة البوليساريو والدولة الصحراوية خلال تقلده منصب وزير الخارجية، اصاب هذه المرة وهو يحاول استعادة الذاكرة الدبلوماسية في سنوات التضحيات التي توالت فيها انتصارات على كافة الصعد، ليضخ في شيخوخة الخارجية الصحراوية شحنة تؤازر الاتكالية على انتصارات تدفع بها حركة التضامن واحرار العالم وتساعدها ظروف دولية واقليمية لاتزال ترى في نضال الشعوب من اجل الحرية والاستقلال سببا للعم والمساندة.
فهل تعيد هذه اللقاءات المكثفة للدبلوماسية الصحراوية جزءاً من نشاطها وبريقها بعد ان ضلت طريقها لسنوات ارتهنت لنظرة قاصرة تتوجس حتى من الظهور مع احزاب الحليف، وتكسر طابوهات ظلت لعقود حجر عثرة في طريق العاطي الرسمي مع سياسة “الحياد” التي تعلنها موريتانيا في حين لم تمنع مخابرات العدو من التغلغل في صنع لوبيات اعلامية واقتصادية وربط شبكات الاتصال مع عصابات المال الحرام للتاثير على الروابط التي تجمع البلدين والنيل من سمعة وكفاح الشعب الصحراوي عبر قنوات الخزي ومنابر الضلال التي تنفث سموم الحقد والكراهية على كل ما هو صحراوي، وتطعن الشعب الصحراوي من الظهر.
وفي الوقت الذي تتسع فيه حركة التضامن والتأييد الدولي للشعب الصحراوي وقضيته العادلة من حكومات وبرلمانات افريقية واوروبية ولاتينية يبقى نظام الاشقاء في موريتانيا يلتزم حياد لا يعرف له تفسير غير التقاعس عن نصرة المظلومين والاستسلام لضغوط المصالح البرقماتية الانية، التي تضر بسمعة واخلاق شعب واحد في بلدين.
الزيارة تاتي بعد الجولة التي قادت الامين العام الاممي الى المنطقة، وتصريحه بان الوجود المغربي في الصحراء الغربية احتلال، وهو ما دفع الرباط الى فتح جبهة جديدة مع الامم المتحدة، وطرد بعثتها لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية والتهجم على امينها العام الذي زار المناطق المحررة من الصحراء الغربية ومخيمات اللاجئين.
هذه التطورات استدعت جلسة طارئة لمجلس الامن الدولي، وحركت جيوش المنطقة للتأهب على نقاط التماس، وبالرغم من غياب مؤشرات توحي باندلاع حرب قريبة الاجل الى انه وقت يحتاج فيه الشعب الصحراوي لدعم ومواقف موريتانيا من ابتلاع الجار التوسعي بالشمال والذي حاول الانقضاض على حق الصحراويين في الحياة وتوريط نظام ولد داداه في مؤامرة لم يكتب لها النجاح كانت موريتانيا حلقتها الثانية على قول المثل”اكلت يوم اكل الثور الابيض”، وهي الاطماع التي لايزال حزب الاستقلال المغربي يغازل بها نظامه الملكي، لكن العقلاء في البلدين وبعد الحرب المريرة التي كبدت الاشقاء خسائر فادحة في الارواح والممتلكات انتصرت في نهايتها لغة العقل على إرادة القهر التي انخرط فيه الاشقاء في غفلة من الزمن، وغابت فيها اخلاق الجوار وهواجس المصير المشترك فجاء توقيع السلام الذي بموجبه انسحبت موريتانيا من الحرب، واعترفت بدولة الصحراويين ليبدأ فصل جديد من العلاقات المبنية على مبادئ ومواثيق منظمتي الوحدة الإفريقية و الأمم المتحدة المتعلقة بحـق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام الحدود الموروثة عن الاستعمار بحسب وثيقة اتفاق السلام الموقعة بين الجانبين.
غير ان الظروف الراهنة لا تترك المجال لترك المصلحة المشتركة التي تزداد يوما بعد اخر في ظل تحديات تفرض الانخراط في العمل المشترك والتنسيق الوثيق على كافة الاصعدة لتامين الحدود من عصابات التهريب والمخدرات والتصدي للارهاب الزاحف ومحاولات التدخل الاجنبي، وهي تحديات لايمكن تجاوز مكانة الدولة الصحراوية كشريك فعلي لمواجهتها في منطقة ملتهبة قابلة للاشتعال في اية لحظة.
كما ان التوتر الذي تمر به العلاقات البينية للدول المغاربية ومعضلات التنسيق الامني فيما بينها تفتح المجال امام عكس علاقات ثنائية قوية، خاصة ان موريتانيا التي انشغلت بواقعها الداخلي جراء عدم استقرار انظمتها السياسية ردحا من الزمن بفعل انقلابات العسكر، بدأت ملامح دولتها المدنية تتجسد على الميدان بكل تجلياتها السياسية وفعالياتها المدنية ونهج الانفتاح على دول الجوار والندية في العلاقات الدبلوماسية وهو ما يفسر رغبة موريتانيا التخلص من عقدة التبعية ومحاولة اثبات الوجود كدولة محورية في المنطقة من خلال تزعمها لـ”مجموعة الدول الخمس في الساحل” وربط التنسيق الامني مع دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية، ورعاية تمارين عسكرية وامنية دولية.
ومن نافلة القول في الاخير ان الاشقاء في موريتاينا باتو اكثر قناعة من اي وقت مضى ان نجاح موريتانيا مرتبط اساسا بتحقيق الاستقرار في الصحراء الغربية وبتعاون دول الجوار وفي مقدمتهم الدولة الصحراوية التي لايمكن تجاهل الحدود الجغرافية الشاسعة بين البلدين وهي اكبر حدود تربط الدولة الصحراوية مع جيرانها، فضلا عن الروابط الاجتماعية والثقافية التي تربط الشعبين.