حكاية “الدرّاعة” من خيمة الملثمين إلى عروش إفريقيا

10 ديسمبر, 2025 - 18:12

الصدى (نقلا عن : (global-watch-arabia) :

في الفضاء الممتد من شواطئ الأطلسي في نواكشوط، وصولاً إلى صخب لاغوس وكانو، مروراً بكثبان أزواد، لا يُعدّ الثوب مجرد قطعة قماش تستر الجسد، بل هو “لغة” بصرية وهوية ثقافية وتاريخٌ يُرتدى. إنها “الدرّاعة”، الثوب الذي وُلد من رحم الصحراء القاسية ليصبح رداء الملوك والوجهاء في عموم غرب إفريقيا.

 

 

لم تكن نشأة الدرّاعة ترفاً، بل ضرورة “عبقرية” فرضتها جغرافيا الصحراء الكبرى. ويعود أصل هذا الزي إلى القبائل الصنهاجية القديمة (أسلاف الطوارق والبيضان) الذين عُرفوا تاريخياً بـ “الملثمين”.

 

 

لغوياً، تنحدر الكلمة من “المِدرعة” أو الدرع، فكما يقي الدرع الحديدي المحارب من السيوف، تقي الدرّاعة البدوي من سياط الشمس والرياح.

 

فضفاضة لتمنح راكب الجمل حرية في الحركة والمناورة، مفتوحة الجانبين لتسمح لنسيم الصحراء بتبريد الجسد، ومزوّدة بجيب صدريّ يُعرف بـ«اللبنة» لحفظ الزاد اليسير في الرحلات الطويلة.

 

ثورة “البازان”: «من الصوف إلى الدمشقيّ» 

 

منذ القرن التاسع عشر ميلادي، تحوّلت الدرّاعة من زيّ للرعاة إلى رمز للترف، مع دخول قماش البازان الدمشقيّ اللامع المستورد من أوروبا. وأصبح اتساعها دليلاً على الثراء؛ فكلما زادت أمتار القماش المستخدمة، زادت هيبة مرتديها. وهنا تمايزت الأذواق:

 

في الصحراء (البيضان والطوارق): حافظت الدرّاعة على انسيابيتها وألوانها الزرقاء (النيلة) التي تقدسها ثقافة الطوارق بوصفها لوناً سماوياً واقياً.

في الحواضر: بدأت تظهر التطريزات الذهبية المعقدة حول الرقبة، كإشارة إلى النفوذ والسلطة.

الرحلة الكبرى: غزو الغرب والجنوب

 

لم تبقَ الدرّاعة حبيسة الخيام، بل سافرت مع قوافل الملح والذهب ودعاة الإسلام، لتجتاح غرب القارة السمراء وتغير خارطة الأزياء فيها إلى الأبد:

 

نحو السنغال (نهر الولوف):

عبر نهر السنغال، انتقلت الدرّاعة لتصبح “البوبو الكبير” (Grand Boubou). وهناك، أضاف السنغاليون بصمتهم الخاصة؛ فجعلوا القماش أكثر خشونة وتنشية (نشاء) ليبدو الثوب ضخماً ومهيباً وكأنه منحوتة فنية، وأضافوا تطريزات هندسية كثيفة تغطي الصدر بالكامل.

 

نحو نيجيريا (ممالك الهوسا واليوروبا):

عبر طرق التجارة القديمة القادمة من مالي وتمبكتو، وصلت الدرّاعة إلى مدن الهوسا العريقة في شمال نيجيريا. هناك تحولت إلى “بابان ريجا” (Babban Riga)، أو “الثوب العظيم”.

 

منذ القرن التاسع عشر، تحوّلت الدرّاعة من زيّ للرعاة إلى رمز للترف، مع دخول قماش البازان الدمشقيّ اللامع المستورد من أوروبا

 

من الهوسا انتقلت إلى قبائل اليوروبا في الجنوب لتصبح “أغبادا” (Agbada). في الثقافة النيجيرية، أصبحت هذه النسخة من الدرّاعة ضخمة بشكل مفرط، تتطلب مهارة خاصة لارتدائها وطيّ أكمامها الطويلة جداً على الكتف في حركة استعراضية تدل على “الهيبة” (Swag)، وأصبحت الزي الرسمي للسياسيين وزعماء القبائل، فلا يكتمل وقار المسؤول إلا بها.

 

الرداء الذي وحد الشعوب

 

اليوم، تقف الدرّاعة كشاهد حي على وحدة ثقافية عميقة في غرب وشمال إفريقيا. إنها الخيط الرفيع الذي يربط بين البدوي في صحراء تينيري، والتاجر في أسواق داكار، والسياسي في أبوجا.

 

إنها ليست مجرد قماش؛ إنها إعلان عن الانتماء لحضارة ضربت بجذورها في الأرض، فسترت الجسد بالكرم، وزينت الروح بالوقار.

 

المصدر : (global-watch-arabia)