
. في بلدٍ تتبدّل فيه الشعارات كما تتبدّل الفصول، ويتحوّل الخلاص إلى نشرة إخبارية مسائية، يبدو أن التاريخ قرر أن يعود هذه المرة في نسخةٍ ساخرةٍ من نفسه، كأنه يعرض مأساةً قديمةً على مسرحٍ حديث الإضاءة… لكن بلا كهرباء.
في جمهورية “الوهمستان”، حيث يتقاطع الواقع بالخيال وتتشابه الوجوه إلى درجة الالتباس، سقط “نظام النسر الذهبي” وسط وعود الإصلاح، فحلّ مكانه “نظام الغراب الأسود” الذي غنّى للوطن فوق أطلاله. لم تكن الولادة جديدة بقدر ما كانت استنساخًا لتاريخٍ يعرف كيف يغيّر الزيّ دون أن يغيّر المضمون.
الجنرال أحمد المتعجّل، بطل المرحلة ومهندس “النهضة المرتجلة”، لا يحمل مشروعًا بقدر ما يحمل حقيبة من الشعارات المعلّبة. رجلٌ يتقن فن الخطابة أكثر مما يتقن فن الحكم، يرفع صوته حين يخفت صوت الشعب، ويقنع الجماهير بأن الصبر فضيلة حين يكون الجوع سياسة. يدخل القصر الرئاسي على دراجته النارية، يعلن أنه جاء “ليحرّر الشعب”، فيبدأ بتحرير الخزينة العامة من محتوياتها.
منذ دخوله المشهد السياسي، لم يتوقف عن تأسيس الوزارات الخيالية، من “وزارة الأحلام الوطنية” التي تهدف إلى أن ينام الشعب مطمئنًّا وإن جائعًا، إلى “هيئة الكبرياء الوطني” التي أطلقت عملةً لا تساوي شيئًا إلا في نشرات الأخبار الرسمية. وحتى حين افتتح “مطار الأوهام”، بدا وكأنه يعلن ولادة مرحلة جديدة من الطيران السياسي، حيث تقلع الطائرات ولا تصل، تمامًا كما تفعل الوعود منذ سنوات.
كان النظام السابق يسرق بصمتٍ ودهاء، أما اليوم، فالسرقة أصبحت مشهدًا علنيًا على الهواء مباشرة. يطلّ الحاكم بخطابه الأسبوعي ليؤكد أنه لا يسرق، بل “يستعيد حقوق الدولة”، فيما يكتشف المواطن أن جيبه هو الدولة المقصودة. يرفع الجنرال شعار النزاهة، ثم يُبرر الفساد بأنه “ضرورة وطنية مؤقتة”.
في بلدٍ يعتذر فيه الماضي من الحاضر، ويتبرأ فيه المستقبل من الاثنين معًا، أصبحت العدالة الاجتماعية ترفًا إعلاميًا، والمساواة مشهدًا تمثيليًا يُبثّ في المناسبات الوطنية. يتحدث المسؤولون عن “النهضة الكبرى”، بينما يزداد العجز في كل شيء، من الخبز إلى الحلم. انقطعت الكهرباء حتى عن محطات توليدها، وجفّت المياه في خزانات الحكومة، واختفى الوقود من سيارات الوزراء، لكن سياراتهم لا تزال تسير، ربما بطاقة “الوطنية المتجددة”. أما الأمن، فقد صار مفقودًا حتى من الحراس الشخصيين، وأصبح المواطن يخاف من الطمأنينة أكثر مما يخاف من الخطر.
في أحد مشاهد العام 2025، وقف الوزير نبيل الشام في مؤتمرٍ صحفيٍ مهيب، وقال بوجهٍ مفعمٍ بالثقة: “لقد حققنا المعجزة… لدينا فائض في كل شيء، إلا أن الشعب لا يراه لأنه مخفي استراتيجيًا.” ضحك بعض الحضور، وصفق آخرون، لا إعجابًا بما قيل، بل لأن التصفيق لا يحتاج إلى كهرباء.
لقد انتقلنا من “وهمستان النسر” إلى “وهمستان الغراب”، من فسادٍ أنيقٍ إلى فسادٍ فجّ، من استبدادٍ منظمٍ إلى فوضى مقنّنة. تغيّرت الوجوه، لكن اليد التي تعبث بالمصير لم تتغيّر، بل ازدادت تمرسًا. صار الوطن مسرحًا كبيرًا بلا ستارة، والمواطنون جمهورًا مدعوًا للتصفيق فقط، ولو في عزّ انقطاع الصوت.
ويبقى السؤال الذي يتردّد في المقاهي قبل نشرات الأخبار: هل يمكن لشعبٍ أُدمِن الحلم أن يصحو دون أن يفقد صوته؟ أم أن “الوهمستان” ليست مجرد جمهورية، بل حالةٌ ذهنيةٌ أبدية، لا تتغيّر إلا حين نكفّ عن تصديق التصفيق؟
جميع الشخصيات والأحداث الواردة في هذا المقال من نسج الخيال. أما ما يشبه الواقع، فربما يكون مجرد صدفةٍ… أو لعله الواقع نفسه وقد قرر أخيرًا أن يسخر من ذاته.