
في لحظة تاريخية فارقة، بدا أن عالماً قديماً مات، وآخر وُلد مترافقاً مع ظهور الوحوش كما يقول غرامشي، إذ زار توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) دمشق بعد سقوطها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتوجه إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي، حيث استولى هناك على إكليل مذهب من البرونز ونقله إلى بريطانيا، وكان مكتوباً عليه: "هذا التاج تقدمة من صاحب الحشمة والعظمة، إمبراطور ألمانيا، حضرة فيلهلم الثاني".
وكان الإمبراطور الذي ترك هذه الهدية بمثابة ذكرى لدى زيارته قبر صلاح الدين خلال حكم الدولة العثمانية، قد تنازل عن العرش أيضاً في نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن ثم، تشكلت حقبة استعمارية في بلاد الشام والمنطقة العربية، تتمثل صورتها المختزلة في هذه السرقة التي أرادت تجسيد نوع من القطيعة بين العهدين العثماني والاستعماري، وهو ما يسعى أستاذ التاريخ في جامعة سان دييغو، مايكل بروفانس، إلى نفيه في كتاب "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2025)، الذي نقله إلى العربية أحمد سالم سالم.
يحاول الكتاب فهم جذور المشكلات التي تواجهها المنطقة اليوم
يضيء الكاتب صدمة الانهيار التي شهدها جيل من النخب المدنية والعسكرية ممن ولدوا أواخر القرن التاسع عشر، ودرسوا في مؤسسات تعليمية وعسكرية عثمانية حديثة، ثم تغيرت حياة كل منهم عقب انهيار الحكم العثماني.
الوعي الممزق بين عالمين
في محاولة لتقديم فهم أكثر عمقاً وواقعية للتاريخ ودوره في بناء الذاكرة والهوية في المنطقة، يتحدى الكتاب الروايات القومية العربية والاستعمارية التقليدية، ويعيد فتح دفاترها عبر تحليل لطبيعة الحداثة العثمانية في القرن التاسع عشر، مؤكداً أن الدولة العثمانية لم تكن كياناً مريضاً على شفا السقوط، إذ شهدت عملية تحديث مستمرة في سبيل إعداد موظفين مدنيين ومواطنين جدد، ونُخبٍ من الضباط والمسؤولين، من خلال المؤسسات التعليمية المتقدمة في إسطنبول.
وفقاً للكتاب، أدّت هذه المدارس إلى تكوين وعي مشترك، يتمثل بالانتماء إلى "الوطن" العثماني، مما أدى إلى تشكيل شخصيات منتمية في مختلف أنحاء الدولة وفي المناطق العربية، وهو ما يرى فيه الكاتب تفكيكاً للرواية القومية التقليدية التي تزعم أن الهوية القومية العربية كانت حركة انفصالية ضد الأتراك منذ وقت مبكر.
ويرى بروفانس أن وجود ضباط عرب، مثل يوسف العظمة وياسين الهاشمي وفوزي القاوقجي، وغيرهما، ممن كانوا موالين للدولة العثمانية حتى نهايتها، يؤكد أن الولاء للدولة لم يكن عرقياً قومياً، بل كان مؤسسياً على نحو يخالف ما صوّرته الروايات لاحقاً، فهذه النخب الموالية التي تدربت في الكليات العثمانية الحديثة كانوا جزءاً من مشروع الدولة التحديثي، ولم يكن ولاؤهم بالضرورة للسلطان أو للعرق التركي، وهو ما حملته هذه النخبة معها إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ووجّه مقاومتها إلى المشاريع الاستعمارية الجديدة.
يتحدى الروايات الاستعمارية حول طبيعة الحداثة العثمانية
في الحقبة التي تلت هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واجه هذا الجيل صدمة كبرى، ووجدوا أنفسهم في عالم يبدو جديداً تماماً، إذ انهارت مؤسستهم الأم، وتلاشت أحلامهم، وحلّ محلها اضطراب اجتماعي وتدخل استعماري، ويصف بروفانس هذه الصدمة، وما تلاها من تحديات خاضها قادة المقاومة، الذين تدربوا على التكتيكات العسكرية العثمانية، وواجهوا القوى المنتدبة في سلسلة من الثورات المسلحة.
لم يكن هدف هؤلاء النخب والقادة بناء دولة قومية بمعناها الحديث، بقدر ما كان هدفهم الرئيس مقاومة النظام الجديد الذي فرضته القوى الاستعمارية، والذي اعتبروه غير عادل، وجاء حاملاً إلى جانب القوة والسلاح، سياسات انتدابية تحمل سردية مُعَدَّةً لسرقة حاضرهم ومستقبلهم، وربما وعيهم الذي تشكل في ظلال دولتهم التي سقطت.
الوقائع ليست صديقة لصفحات التاريخ
يُشكّل رفض بروفانس للمنهج القومي (الوطني) الصارم أساساً في أطروحة الاستمرارية التي يقدمها في كتابه. فبدلاً من عرض تاريخ منفصل لكل دولة من الدول الناشئة بعد سقوط الدولة العثمانية، ينسج رؤية للمنطقة من منظور مقارن بين مدن مثل بغداد وبيروت ودمشق وحلب والقدس، ويبين من خلالها، أن النضال ضد الاستعمار لم يكن نضالاً محلياً منعزلاً، بل كان جزءاً من وعي (عثماني) مشترك تجاه سقوط النظام القديم.
ويحاول عبر أطروحته توضيح أن الحدود التي رسمها الاستعمار لم تنجح في محو الروابط القائمة والمستمرة بين النخب في هذه المدن، فقد كانت المقاومة المسلحة، سواء بقيادة يوسف العظمة في دمشق أو إبراهيم هنانو في حلب مثلاً، وهي متشابهة في طبيعتها، تعد تعبيراً عن الصدمة ذاتها التي أصابت "الجيل الأخير". هذا الترابط يفسّر كيف تبلورت الهويات الوطنية، وكيف أن بذور كثير من صراعات المنطقة الحالية قد زُرعت خلال تلك الحقبة.
لم تنجح حدود الاستعمار في محو الروابط بين النخب العربية
يُعتبر يوسف العظمة شخصية محورية تثبت فرضية بروفانس، فقد وُلد في دمشق لعائلة عريقة، وتلقى تعليمه في الكلية الحربية بإسطنبول، حيث تخرج فيها ضابطاً محترفاً، ثم خدم في الجيش العثماني في مواقع مختلفة، وبقي موالياً للدولة حتى نهايتها. بعد هزيمة العثمانيين، شغل العظمة منصب وزير الحربية في الحكومة العربية التي شكلها الأمير فيصل في دمشق، وحين وجهت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال هنري غورو إنذارها بضرورة تسليم البلاد، رفض الاستسلام رغم إدراكه لضعف قواته العسكرية وقلة تجهيزاتها، ولا يمكن تفسير موقفه في معركة ميسلون بحسب الكتاب، إلا بالنظر إلى أن موقفه لم يكن مجرد عمل قومي فردي، بل كان تتويجاً لولائه العميق للمؤسسة العسكرية والدولة التي تدرب فيها، لقد اختار المواجهة على الاستسلام، رافضاً تبني سقوط دولته.
إلى جانب العسكريين، يتناول بروفانس شخصيات من النخبة المدنية، مثل عبد الرحمن الشهبندر، الذي انخرط في العمل السياسي بعد انهيار الإمبراطورية. يعد الشهبندر، الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة فيصل بدمشق، من أبرز قادة المعارضة السياسية للانتداب الفرنسي، إذ أسس "جمعية اليد الحديدية"، وكان العقل المخطّط للثورة السورية الكبرى. ومن خلال تَتَبُّعِ المؤلف لمسارات هذه الشخصيات، وغيرها، يستمر في تأكيد أطروحة الاستمرارية التي يتبناها، فموقف الشهبندر في معارضة الاستعمار كان استمراراً لوعيه السياسي الذي تشكّل في بيئة الحداثة العثمانية، وليس وعياً قومياً جديداً فقط، أما تعاون إبراهيم هنانو مع الأتراك في المقاومة، فيبرهن مثلاً على استمرار الروابط الفكرية والتحالفات التي تشكلت في العهد العثماني، مما يتجاوز الحدود القومية المصطنعة التي فرضها الاستعمار، وفق أطروحته.
الولاء للدولة العثمانية لم يكن عرقياً قومياً، بل كان مؤسسياً
وانطلاقاً من ترسيخ هذه الرؤية، يقدم بروفانس مراجعة نقدية لاذعة للروايات التاريخية التي هيمنت على فهم تاريخ المنطقة، في تلك المرحلة الحرجة. أيضاً، يفكك المؤلّف خطاب الاستعمار الذي قدم نفسه على أنه جاء لتحرير الشعوب من الظلم العثماني، كاشفاً عن التناقض الجوهري في هذا الادعاء، مبيناً أن القوى المنتَدِبة لم تكن مُحَرِّرة، بل كانت تدمر البنى الحديثة التي أقامها العثمانيون في قرنهم الأخير، من مدارس وجامعات وأنظمة إدارية وبنى تحتية.
يُظهر الكتاب كيف أن بعض النخب القومية العربية تبنّت بعد الاستقلال الرواية الاستعمارية، التي صورت الحقبة العثمانية عَصرَ ظلام، وعملت على تسييس الجغرافيا، عبر تحويل التقسيمات الإدارية العثمانية، وابتكار تمايز ثقافي مصطنع لتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية، وإعادة هندسة الوعي، خاصة في سورية ولبنان. ولعل هذا كله، يعد مفتاحاً لإعادة قراءة التاريخ، ومحاولة بناء فهم أعمق لجذور المشكلات التي تواجهها المنطقة اليوم.
* كاتب من الأردن