
وكالة ميثاق/الشروق أونلاين
في عالم يزخر بالوفرة والرفاهية، انكسرت الحقيقة المرة على أعتاب القطاع الفلسطيني المحاصر، حيث اختفت معاني الشرف والكرم أمام جبروت السياسة والمصالح، وصارت معاناة الغزيين صوتًا لا يُسمع في زحمة راحتنا، حتى صار لسان حال أغلبنا: “ما أحوجنا لمروءة الجاهلية”!
وبينما نتناول طعاما مختلف الأذواق والألوان على موائد الدفء والترف، تطالعنا وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بأخبار تندى لها جبين كل مسلم، وصور تحرك ضمير الإنسانية، فهناك في غزة الكسيرة والجريحة أطفال وأسر يعانون حصارًا قاسيًا بلا رحمة، بل ويموتون من الجوع!
ووسط سيل المشاهد القاسية والصادمة، وعبارات الغزيين البريئة من صمت العرب والمشتكية إلى الله ضعفنا وهواننا، صار التساؤل الأكبر ليس عن أكلنا، بل عن ضميرنا: هل نأكل الطعام وأهل غزة جوعى؟ وهل كان كفّار الماضي أشد مروءةً من مسلمي الحاضر؟
هذا ما تقوله آخر الإحصائيات عن شهداء الجوع!
بحسب آخر الإحصائيات، أكدت وزارة الصحة في غزة استشهاد أكثر من 900 فلسطيني -بينهم 71 طفلا- بسبب الجوع وسوء التغذية، إضافة إلى 6 آلاف مصاب من الباحثين عن لقمة العيش منذ بدء حرب الإبادة، التي يشنها العدو الصهيوني دون توقف.
ولا يموت الغزيون جوعًا فحسب، بل تطالهم يد العدو النازي وهم ينتظرون شاحنات المساعدات التابعة للأمم المتحدة، وفقًا لما أعلنه برنامج الأغذية العالمي، الذي أكد أن الأزمة في غزة وصلت إلى مستويات جديدة من اليأس، مجددا دعواته لوقف إطلاق النار.
الجوع لا يفرق بين أحد في غزة!
والجوع في غزة، لم يعد استثناءً، بل صار قاعدةً يعيشها الجميع، فلا طعام يكفي، ولا ماء نقي، ولا حتى فرصة لالتقاط الأنفاس، وفوق ذلك قصف مستمر وشبح موت يلاحق من كل جهة وسط صمت دولي مطبق!
الصحفيون الذين ينقلون الحقيقة بأرواحهم، والطواقم الطبية التي تسابق الموت لإنقاذ الأرواح، جميعهم يواجهون الجوع ذاته الذي ينهش أجساد الأطفال والنساء والشيوخ، ففي هذا الحصار الخانق، لا امتياز لأحد.. الكل جائع، والكرامة تُختبر كل يوم.
في ذات السياق نشر الصحفي يحيى العوضية تدوينة عبر حسابه على فيسبوك قال فيها: “كنت أكتب عن الناس الجوعى، واليوم أصبحتُ واحدًا منهم.. أعود إلى البيت خالي اليدين، وأتحاشى نظرات عائلتي التي تسألني دون كلام”.
وأضاف: “قمت ببيع الهاتف الذي كنت أنقل به الحقيقة.. والآن أقوم ببيع دراجتي التي أتنقل بها للوصول إلى الخبر.. بعت كل شيء جمعته في سنين التعب، حتى أشتري خبز.. لم أعد أملك شيئًا إلا هذا الجسد المتعب، وهذا القلب المكسور”.
وتابع: “أنا صحفي لكن الجوع علّمني أن الكلمة لا تؤكل، وأن الحقيقة، أحيانًا، تُباع لتشتري بها كيس طحين، وها أنا هنا أعرض دراجتي بعد بيع هاتفي وأقول لكم من يريد ٨ يستبدلها بالطحين”.
مروءة الجاهلية لم تكن مجرد عرف اجتماعي
إذا، فإنّ الجوع لم يقتل آلاف الغزيين فقط، بل دمر أحلامهم وأسرهم، كما فعل الخذلان بمشاعرهم، في ظل حصار خانق مفروض عليهم منذ سنوات، عاشوا خلالها في خوف دائم من غدٍ مجهول، تٌفتقد فيه أبسط مقومات البقاء على قيد الحياة.
لقد كانت مروءة الجاهلية، بكل ما فيها من كرمٍ وشهامةٍ وصونٍ للحقوق، أكثر من مجرد عرفٍ اجتماعي؛ كانت مرآةً لإنسانيةٍ فطرية، ورحمةٍ خالصة نفتقدها اليوم في عالم طغت فيه المصالح وتبلدت المشاعر.
تلك المروءة الحقة غابت في زمنٍ أنهكته التقسيمات وأتعبته الصراعات، فتركنا غزة تنزف وحدها، ينهشها الجوع بصمتٍ قاتل. فكيف نقبل أن نصمت عن هذا الظلم الفادح الذي تجاوز كل حدود التصور؟ وما الذي نحتاجه اليوم سوى أن نتجاوز الخطب الفارغة، وننحاز بالفعل قبل أن يفقد هذا العالم آخر ما تبقّى فيه من ضمير؟

