خطر الصهيونية على اليهود واليهودية / ناصر حمدادوش/نائب في البرلمان الجزائري

21 فبراير, 2024 - 19:04

من بركات معركة طوفان الأقصى الاستثنائية، التاريخية والصادمة يوم 07 أكتوبر 2023م، وردُّ فعل الغباء الصهيوني الهمجي والمجنون ضدَّ الشعب الفلسطيني، أنْ تعالت أصواتٌ يهودية مرتفعة من كلِّ أنحاء العالم تدين الممارسات الوحشية للجيش الإسرائيلي، وأعادت الجدل التاريخي بين “الصهيونية” و”اليهودية”، على اعتبار أنَّ الإيديولوجية الصهيونية وفلسفة إقامة دولة إسرائيل بكلّ هذا الإجرام هو انتهاكٌ صارخٌ للتعاليم اليهودية، والأهم من ذلك هو القلق الشديد من ارتفاع معدلات “معاداة السَّامية” والكره المتنامي ضدَّ اليهود في العالم، إذ وصف 96 في المائة من اليهود الأمريكان ممارسات الكيان الصهيوني بأنها تمثِّل مشكلةً خطيرةً عليهم.
وقد ذكر الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في كتابه “البروتوكولات واليهودية والصهيونية” في فصل: الرفض اليهودي للصهيونية، أن الغالبية الساحقة من يهود العالم رفضت الفكرة الصهيونية، وعارضت الحركة الصهيونية، لأنها أدركت الكُره والعنصرية الكامنة وراءها، وأنه عندما ظهرت الصهيونية على المسرح السياسي الدولي كانت الاستجابة اليهودية لها أبعد ما تكون عن الترحيب، وقد جاء في “موسوعة الصهيونية وإسرائيل”: إنَّ المنظمات اليهودية الرئيسة اتخذت من الصهيونية موقفًا معارضًا، على اعتبار أنَّ فكرة الدولة اليهودية تتعارض مع عقيدة الخلاص اليهودية، وقد أعرب المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكان عن معارضته للتفسير الصهيوني لليهودية على أنها انتماءٌ قومي.

إلا أنه وبالرغم هذه المعارضة اليهودية للصهيونية إلا أنَّ الحركة الصهيونية استطاعت استيعاب غالبية اليهود في العالم، عندما جعلت من نفسها جزءًا من الاستراتيجية الغربية العامة، فأصبحت إسرائيل دولةً عميلةً لاستيعاب الفائض البشري اليهودي في الغرب ككتلةٍ بشريةٍ متماسكة، تخدم المصالح الغربية، ومن ثمّة لم يعد هناك تناقضٌ بين أنْ يكون اليهودي صهيونيًّا يدين بالولاء للدولة الصهيونية، وبين أنْ يدين بالولاء للدولة الغربية الأصلية، عبر فكرة “الصهيونية التوطينية”، وهي تأييد الحركة الصهيونية دون الهجرة إلى فلسطين عبر “الصهيونية الاستيطانية”، كما نجحت في صهْيَنة العقيدة اليهودية ذاتها، وتفسير المفاهيم الدينية اليهودية مثل “فكرة عودة اليهود”، بعد أن كانت محرَّمة إلا تحت قيادة وعودة المسيح المخلِّص في آخر الزمان.

وعندما افتقرت الصهيونية إلى أيِّ قاعدةٍ جماهيرية يهودية قوية اعتمدت في البداية على قوةٍ غير يهودية، فرَضَت حلاًّ للمسألة اليهودية من أعلى (النظرة الإمبريالية والوصاية الغربية، كالانتداب البريطاني)، وليس حلاًّ من أسفل (من ناحية الجماهير اليهودية في ضوء الرؤى الإنجيلية أو التاريخ اليهودي)، وعند الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا لليهود التحق اليهودُ المتدينون الرافضون للصهيونية، وهو ما مكَّن الحركة الصهيونية من فرض نفسها على الجماهير اليهودية.

من النتائج الإستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى أنها عرَّت “أزمة الإنسانية” المتمثلة في الحركة الصهيونية، وأنَّ كيانها السياسي المسمَّى “إسرائيل” باتَ يعرِّض اليهود في العالم للخطر، لأنه يثير حولهم الحقد والكراهية من الشعوب الأخرى، وهو ما اعترف به الفرنسي “روني برومان”، الرئيس السابق لمنظمة “أطباء بلا حدود” بقوله: “أنا بصفتي يهوديًّا، أُؤمن أنَّ إسرائيل باتت تعرِّض حياتي للخطر، لأنها تثير الحقد ضدِّي، وتغذِّي اللاسامية في كل العالم”.

وقد طوَّرت الصهيونية من ديباجاتها، وأنه من خبثها في ذلك: فرض الرؤية الصهيونية غير اليهودية، وهي في جوهرها تنطلق من الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الاستعمارية الغربية التي تميل إلى كُره اليهود، وضرورة التخلص منهم باعتبارهم نفايات بشرية مضرّة بالمجتمعات الغربية، وهو ما سيدفعهم إلى البحث عن وطنٍ بديلٍ أكثرَ أمانا لهم، والانتقال من الشعب المنبوذ إلى الشعب العضوي في وطنٍ حقيقي، هو أرض الميعاد (فلسطين)، تكون دولة يهودية خالصة، هي بمنزلة المركز الروحي والثقافي ليهود العالم، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الأمريكي “بايدن” عند زيارته للكيان الصهيوني سنة 2022م، إذ قال: “ليس عليك أن تكون يهوديًّا لكي تكون صهيونيًّا. أنا صهيوني” .وهو ما يعني أن صهيونية اليهود لم تكن سوى آلية لتسويق صهيونية غير اليهود الاستعمارية المبنية على كراهية اليهود، والداعية إلى تخليص المجتمعات الغربية منهم، أي أنَّ الصهاينة اليهود تبنُّوا الحل الاستعماري الغربي للمسألة اليهودية، ووضعوا الصهيونية داخل التشكيل الإمبريالي الغربي، وهو ما يفسِّر هذا الارتباط العضوي بين إسرائيل والحكومات الغربية، وخاصة أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.

ويتحدث “المسيري” في الفصل الخامس: الصهيونية ذات الديباجات اليهودية، عن رفض اليهودية أنَّ مؤسسي الحركة الصهيونية لم يعيروا اليهودية أيَّ التفافٍ إلا باعتبارها مشكلةً تحتاج إلى حل، بل أظهر بعض الصهاينة عداءً واضحًا لليهودية، وأنها تمثل هروبًا منها، ولم تكن تعبيرًا عنها.

لقد صرخ بعض رموز اليهودية منذ تأسيس الحركة الصهيونية على يد “تيودور هيرتزل” سنة 1897م أنَّ “الصهيونية” و”اليهودية” متناقضتان تمامًا، فاليهودية دين، والصهيونية حركة سياسية علمانية، تريد تحويل اليهودية من عقيدةٍ دينية إلى نزعةٍ قومية، وهو ما يتَّسق مع مقولة “هيرتزل” في مذكراته: “إنني لا أخضع في مشروعي إلى أيِّ دافعٍ ديني”، ومنذ تلك اللحظة انفجرت نيران الصراع اليهودي الداخلي بين اليهود المتديِّنين وبين الصَّهاينة العلمانيين.

وبالرغم من الطابع الديني الذي حاولت الصهيونية الاختباء وراءه، إلا أنه لم ينطلِ على اليهود المتديِّنين، أنَّ اشتقاق “الصهيونية” جاء من أجل تعبئة المشاعر الدينية لليهود، ودغدغة حنينهم المزعوم إلى جبل “صهيون” المقدس لديهم في فلسطين، وهو ما يتصادم مع التصوُّر العقدي اليهودي بأنَّ أرض إسرائيل هي منحةٌ إلهية على يد “المسيح المخلِّص المنتظر”، وأنَّ أيَّ محاولةٍ بشريةٍ لإقامة دولةٍ يهوديةٍ هي كفرٌ وشذوذٌ عن اليهودية، وخيانةٌ لمعنى الوعد الإلهي.

ومن أكبر المعارضين اليهود للصهيونية هم “اليهود الأرثوذكس”، الذين يؤمنون بأنَّ “الشعب اليهودي” ما هو إلا تعبيرٌ ديني، وأنَّ هوية الانتماء تتوقَّف على الالتزام بالشريعة اليهودية، وعليه فإنَّ أيَّ إيديولوجيةٍ تنظر إلى اليهود نظرةً سياسية أو قوميةً هي مخالفةٌ للدين اليهودي، وبعيدةٌ عنه.

لقد كانت من النتائج الاستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى أنها عرَّت “أزمة الإنسانية” المتمثلة في الحركة الصهيونية، وأنَّ كيانها السياسي المسمَّى “إسرائيل” باتَ يعرِّض اليهود في العالم للخطر، لأنه يثير حولهم الحقد والكراهية من الشعوب الأخرى، وهو ما اعترف به الفرنسي “روني برومان”، الرئيس السابق لمنظمة “أطباء بلا حدود” بقوله: “أنا بصفتي يهوديًّا، أُؤمن أنَّ إسرائيل باتت تعرِّض حياتي للخطر، لأنها تثير الحقد ضدِّي، وتغذِّي اللاسامية في كل العالم”، و”أنَّ المشروع الصهيوني الذي قام في الأصل على حماية اليهود قد فشل بالكامل، وأتى بنتائج عكسية”، بعد هجوم المقاومة الفلسطينية يوم 07 أكتوبر 2023م، بل إنَّ الصحافي اليهودي الفرنسي الإسرائيلي “سيلفان سيبيل”ألَّف كتابًا سنة 2022م تحت عنوان “دولة إسرائيل ضدَّ اليهود” بَدَا أكثر استفزازًا وإثارةً للصراع بين “اليهودية” و”الصهيونية” من جديد، وأنَّ ما تعيشه الصهيونية هو فشلٌ قاسٍ لا جدال فيه، بل ارتفعت أصواتٌ كثيرةٌ من المفكرين اليهود، الذين يعتبرون الصهيونية كائنًا طفيليًّا يشكل خطرًا على البشرية، وليس على اليهود واليهودية فقط، فهناك جذورٌ عميقةٌ للصراع بين اليهودية والصهيونية، وأنَّ المشروع الصهيوني رَاكَم الكثير من الانتقادات من داخل البيت اليهودي نفسِه، فهذا الحاخام “موشي هيرش”، أحد زعماء حركة “ناطوري كارتا” اليهودية المناهضة للصهيونية، التي تأسست سنة 1938م يرى أنَّ “اليهود طُردوا من أرض إسرائيل بسبب خطاياهم” وأنَّ “أيَّ محاولةٍ لاسترداد أرض إسرائيل بالقوة هي مخالفة للإرادة الإلهية، وعودة إسرائيل لا تكون إلا بقدوم المسيح”.

وفي مقال له عام 1978م في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية يقول إنَّ “الصهيونية على نقيضٍ تامٍّ مع اليهودية؛ إنها تريد تعريف الشعب اليهودي بأنه وحدة قومية، وهذا هو الكفر نفسه… ونوضِّح أنَّ دولة إسرائيل لا تمثل يهود العالم.. ونحن نشجِّع عدم المساواة أبدًا بين اليهودية والصهيونية.. إنَّ الصهيونية حركةٌ علمانية، تسيء استخدام الدين الذي يرفضون إتِّباعه، وتستخدمه لتبرير جرائم محرَّمة بشكلٍ واضحٍ في هذا الدين… لقد أوضحنا مرارًا وتكرارًا أنَّ معاداة الصهيونية ليست معاداة للسامية.. نريد أن يتذكر الناس الفرق بين اليهودية والصهيونية..”.

وأعلن المؤرخ الإسرائيلي “زئيف هرتزوغ” أنَّ الأساطير التوراتية التي يتذرَّع بها الصهاينة لإثبات الحق التاريخي في أرض فلسطين إنما هي دعوى زائفة لا برهان تاريخيا عليها.

وفي عام 2015م وجَّه الحاخام “ديفيد وايس” اليهودي الفرنسي رسالةً إلى الرئيس الفرنسي “نيكولا ساركوزي” بعد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” يهود أوروبا إلى الهجرة الجماعية إلى إسرائيل، قال فيها: “إنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي تصرَّف مرَّةً أخرى وكأنه حامي يهود العالم ومُمثِّلهم. الصهاينة يعدّون أنفسهم منقذي اليهود، لكنهم في الحقيقة يُشكِّلون خطرًا كبيرًا عليهم، وهم السبب في زيادة العداء لليهود في العالم، ومشروعهم الصُّهيوني هو سبب كراهية اليهود”.

إننا بحاجةٍ إلى ضرب المشروع الصهيوني من الداخل، وفضح هؤلاء الصهاينة أمام العالم، وتعرية وجههم القبيح أمام الإنسانية، خاصة أنَّ هذه الرموز اليهودية هي أصواتٌ مسموعةٌ لدى الغرب، وتتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من المصداقية، وأنَّ استعراض هذا الصراع بين الصهيونية واليهودية ليس من باب “وشهد شاهدٌ من أهلها” فقط، بل هو تجريدٌ لهذا الكيان الصهيوني الإجرامي النازي من أيِّ شرعيةٍ لتمثيل يهود العالم، وإدانةٌ وتجريمٌ لهجرة اليهود إلى فلسطين، ورفضٌ للمساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وحشدٌ لجهود مناهضي الكيان الصهيوني في العالم، وعلى رأسهم: تعبئة الجماعات اليهودية المناهضة لإسرائيل، لأنَّ تأثيرهم على الرأي العام الأمريكي والغربي أكبر، وأنَّ معاداتنا هي للصهيونية الإسرائيلية المحتلة، وليست لليهودية واليهود، باعتبارهم من “أهل الكتاب”.

الشروق الجزائرية