رغم الصعوبات والنقائص، شكلت الإذاعات والتلفزيونات الخاصة في موريتانيا "طفرة كبيرة في مجال الحريات" بعد عقود من انفراد الإعلام الرسمي بالفضاء السمعي والبصري في البلاد.
كانت الفترة الإنتقالية التي عرفتها موريتانيا ما بين عامي 2005 و2007، فاتحة لعهد تطوّر كبير شهده مجال الحريات الجماعية والفردية في البلاد. فخلال هذه الفترة، أعدت نصوص قانونية كثيرة، بعضها يتعلّق بحرية الإعلام، كقانون الصحافة المكتوبة، بينما تمّ الشروع في التحضير لنصوص أخرى صدرت لاحقا.
ومن بين تلك النصوص، القانون المنظم لتحرير الفضاء السّمعي البصري، الذي يسمح بإنشاء مؤسسات إعلامية تلفزيونية وإذاعية خاصة، وقد وضعت نواته الأولى سنة 2007 بتأسيس هيئة تسمّى السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، أسند إليها تنظيم القطاع وضبطه، لكن صدور القانون تعطّل ثلاث سنوات حتى عام 2010، حيث صادق عليه البرلمان الموريتاني، وقد أشفع قرار المصادقة عليه، بموافقة السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية على الترخيص للدفعة الأولى، الممثلة في خمس قنوات تلفزيونية وخمس إذاعات، كلها مؤسسات تجارية خاصة، في وقت ما يزال القانون المتعلّق بتحرير القنوات الإذاعية والتلفزيونية الجمعوية غيْر الرِّبحية، معطّلا حتى الآن ينتظر صدور مرسوم من وزير الإعلام، كما ينص القانون على ذلك.
انطلاقة بمشاركة الجميع
ومع بداية عام 2012، بدأت القنوات والتلفزيونات الخاصة بثّها، بعد توقيعها على دفاتِر التعهُّدات، التي سيتبيّن لاحقا أنها كانت مُجحفة، ونظرية غيْر قابلة للتطبيق، ورغم ذلك، شكلت هذه الإذاعات والتلفزيونات طفرة كبيرة في مجال الحريات الإعلامية في البلد، حيث تعوَّد الجمهور الموريتاني خلال العقود الماضية على الإذاعة والتلفزيون الحكوميتيْن، اللتين ما تزالا حتى الآن تشكلان إعلاما حكوميا مرتبِطا بالنظام السياسي الحاكم في البلد، ويغيب عنهما الرأي المخالِف والمعارض، فضلا عن رأي المواطن العادي
لقد وجدت القِوى السياسية المعارضة في هذه القنوات فُرصة لمخاطبة الرأي العام والترويج لأفكارها وبرامجها، باللّغتين العربية والفرنسية، فضلا عن اللغات المحلية الثلاثة (البولارية والسنوكية والولفية)، وهي لغات تتحدثها الأقلية الزِّنجية في البلد، وذلك بعد أن فرض القانون على هذه القنوات منح تلك اللّغات نسبة من وقت بثها اليومي، وبات الأثير مفتوحا على مصراعيْه لكل النشطاء السياسيين والحقوقيين والاجتماعيين، ولعِبت هذه القنوات دوْرا كبيرا ومِحوريا في تطوير وبلورة رأي عام مطلع على حيثِيات أمور تسيير البلد، وأصبح النقد الحكومي مفردة يومية من مفردات المواطن البسيط، الذي يقدِّم رأيه عبْر البرامج التفاعلية اليومية، كما وفّرت فرصة لأصحاب المظالم والمهمّشين وضحايا الغبن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، للتعبير عن وجهات نظرهم والمطالبة بحقوقهم. وكثرت برامج المناظرات السياسية بين الفرقاء، وتعدّدت اللافتات المرفوعة بين تيارات سياسية ونقابية وحقوقية وفئوية وطبقية، وباتت كل القضايا مطروحة للنقاش مع المواطن العادي بشكل يومي في تعاطٍ مباشر، بعد أن ظل نقاشها في السابق عبْر الإعلام الحكومي حِكرا على نُخبة سياسية منتقاة.
عثرات الميلاد
غير أن تلك الطفرة في مجال حرية الإعلام السمعي البصري، واجهتها صعوبات عديدة أضرت بمسيرتها وهددت بفشل التجربة عموما وفقدان المواطن نافذته التفاعلية اليومية مع الشأن العام، حيث وجدت هذه القنوات نفسها أمام أزمة كادر بشري مؤهل قادِر على مواكبة جو الحرية الإعلامية بمِهنية واحترافية، وذلك نظرا لغياب التراكم التجريبي لدى القائمين على هذه المؤسسات والعاملين فيها، حيث لم يعرف البلد أيّ نوع من ممارسة حرية الإعلام السمعي البصري قبلها، فتتالت الأخطاء المِهنية القاتلة، وتحوّلت أحيانا تلك المؤسسات إلى منابر دِعائية لأمور تمسّ القانون وتخترقه، وانتهكت في حالات كثيرة الخصوصية الفردية، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع أصوات تطالب هيئة السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية بالتحرّك لضبط القطاع وتنظيمه.
في مقابل ذلك، اعتمد القائمون على تلك السلطة فلسفة تقوم على ترْك الحبل للغارب للتّجربة الأولى، مع استدعاءات تحذيرية للقائمين على تلك القنوات وعقد اجتماعات دورية معهم لمناقشة تجاوُزاتهم وتنبيههم عليها، على أمل أن تنضج التجربة وتتمكّن من احتواء أخطائها بنفسها عبْر مسار مِهني مسؤول.
على صعيد آخر، واجهت تلك المؤسسات أزمة مالية خانِقة منذ البداية، عزّزها غياب أيّ نوع من الدّعم المالي من طرف السلطة، خلافا لما كان متوقّعا، فضلا عن غِياب سوق للإعلانات في البلاد، حيث تعتبر الدولة مصدر ثلثي الإعلانات المتوفّرة، ويتم توزيعها بفوْضوية واعتمادا على المحسوبية والطرق الملتوية، كما يشكِّل استمرار مؤسسات الدولة الإعلامية، كالإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الرسمية في منافسة القطاع الخاص تجاريا عبر استحواذها على سوق الإعلانات واستخدامها لإمكانيات الدولة وتمويلاتها في هذا المجال، عائقا أمام توفّر هذه القنوات على سيولة مالية تضمن استمراريتها وتطويرها.
هذا فضلا عن إحجام المُستثمرين عن ضخّ مزيد من الأموال في تلك القنوات، وهو ما جعل تجربة هذه الوسائل الإعلامية الخاصة مهدّدة بالإفلاس. فقد أصبحت معظم القنوات الإذاعية والتلفزيونية عاجِزة عن تسيير شؤونها اليومية ومُواصلة الإنتاج، بل أصبحت عاجِزة عن تسديد رواتِب عمَّالها.
في مواجهة الإفلاس
أمام هذه التحديات المتلاحقة، التي تنذر بانهيار منظومة الإعلام السمعي البصري المستقل في البلاد، أسّس القائمون على تلك المؤسسات اتحادا سُـمِي "اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الخصوصية في موريتانيا"، سارع إلى تقديم عريضة مطلبية إلى الحكومة والشركاء، بُغية إنقاذ هذه التجربة وتنميَتها، وقد طالب القائمون على المؤسسات السلطات بانتشالهم من وضعية الإفلاس التي تشرف عليها التجربة، عبْر تقديم دعم مالي لهُم مقابِل الخدمات العمومية التي يقدِّمونها يوميا، وفي طليعتها تعزيز الديمقراطية المباشرة عبْر منح المواطنين فُرصة يومية للتفاعُل مع مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وقد أدّت هذه الوضعية إلى مواجهة القنوات الخاصة أزْمة خانِقة مع شركة البث الإذاعي والتلفزيوني المملوكة للحكومة، والتي تحتكِر بموجب القانون، البثّ على عموم التراب الموريتاني، وبلغت الأزمة ذِروتها عندما أوقفت الشركة بث ثلاث قنوات تلفزيونية من أصل خمسة، بسبب عجزها عن دفع جزء بسيط من الديون المتراكِمة عليها، كما أوقفت بث القنوات الإذاعية عبْر القمر الصناعي عرب سات، وفي داخل بعض مدن البلاد عبْر البث الأرضي للسبب ذاته.
وفي نهاية المطاف، قادت هذه الوضعية إلى التوقّف النهائي لبث أول إذاعة خاصة انطلقت في البلد وهي "إذاعة موريتانيد"، التي واجهت مصاعِب مالية أدّت إلى توقّفها نهائيا، بينما يتوقّع أن تمضي على شاكلتها باقي القنوات الإذاعية والتلفزيونية في البلد، إن لم يتم التدخل لإنقاذها خلال فترة وجيزة.
أزمة البث.. بداية النهاية
لقد أدّت أزمة التلفزيونات والإذاعات مع شركة البث الحكومية وقطْع بث بعض القنوات، إلى اندلاع جدل وطني واسع حول تقصير الحكومة في دعم تلك المؤسسات والتعاطي معها كمؤسسات تجارية بحتة والتضييق عليها.
ومع أنه لا خِلاف حول أحقية شركة البث الإذاعي والتلفزيوني في الحصول على مستحقّاتها المالية التي تُطالب بها القنوات والإذاعات الخصوصية، إلا أن تَعاطي الحكومة مُمثلة في شركة عمومية مملوكة لها مع وسائل الإعلام الخاصة الوليدة، بمنطق التاجر الذي لا يقدِّر قيمة الخدمات العمومية التي تقدّمها هذه القنوات، كان أمرا مُستغرَبا ومُثيرا للجدل والنّقد على نطاقٍ واسع.
فحين يتوقّف بث أكثر من نصف القنوات التلفزيونية المستقلّة من أول جيل تجربة لحرية الإعلام السمعي البصري في موريتانيا، ويتوقف بث الإذاعات في المدن الداخلية وعبْر القمر الإصطناعي عربسات بشكل متزامن، وتتباهى الحكومة بتصدر موريتانيا للعالم العربي في حرية الصحافة، وهي صدارة تعود في جزء كبير منها إلى وجود هذه القنوات والإذاعات، فإن ذلك يلحق ـ بحساب الربح والخسارة ـ من الضرّر المعنوي بسُمعة البلد وحرية الصحافة فيه، أكثر ممّا يلحقه بها تأخّر أو إلغاء ديون لصالح شركة مملوكة للدولة
في سياق متصل، أثار قطْع البث إشكالية قانونية تتعلّق بحق المواطن في الإعلام، حيث تتحجج شركة البث بأنها أنهت خدمات البث بسبب تأخّر تلك القنوات والإذاعات في تسديد ديونها، إلا أن القانون الموريتاني لا يمنح حقّ توقيف البث أو تعليقه مؤقتا، إلا لجهة واحدة، هي السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، باعتباره حقّا للمواطن الموريتاني، لا ينبغي التلاعب به. كما أن هذه القنوات والإذاعات لا تملك بديلا عن الشركة الحكومية على الأراضي الموريتانية، نظرا لأنها تحتكِر بقوة القانون البث في موريتانيا، وهو ما جعل الكثير من القانونيين يؤكِّدون أن إقدام الشركة على قطْع البث شكَّل "انتهاكا صارِخا للقانون وتعطيلا لحقّ المواطن في التنوّع الإعلامي وفي الخِدمة العمومية" التي تقدِّمها تلك القنوات.