الإسلام الانفعالي.. و الإسلام الحضاري!

14 يوليو, 2023 - 23:01

أعرف أن هذا الموضوع حساس و عميق ؛ فهو يحتاج لمعالجة حصيفة و متوسعة أكثر  من مجرد تدوين خاطرة عابرة. إنما في هذه الخربشة قصدت أثارة الأذهان . و لا أرى سؤالا أكثر استفزازا للأذهان الراكدة من السؤال عن أي إسلام يتحدث الموريتانيون حين يستفزهم متنطع؟ 
طبعا،  لا يوجد إلا إسلام واحد هو الذي جاء به النبي الرسول محمد عليه الصلاة و السلام. هذا الإسلام  تضمن أوامر و نواهي و شعائر و معاملات ... و سلوكا و قيما و أخلاقا.
 توفي محمد عليه الصلاة و السلام و هو  المعصوم و ترك من بعده جماعة من أصحابه الفضلاء الطاهرين الذين تربوا على يد أعظم مرب و أقوى و أعدل قائد على وجه الإطلاق. لكن هؤلاء الصحابة هم بشر يطالهم ما يطال كل بشري من ضعف و قصور و تقصير و خطأ... و هوى و أغراض ، حتى و إن كانوا هم الأفضل بين  الناس، من غير الرسل و الأنبياء،  لقربهم من عهد النبوة. إن بشرية هؤلاء الصحابة أوقعتهم في أخطاء في الممارسة و في سوء التقدير لعواقب بعض المعضلات و لقصور في تأويل بعض المواقف ، محكومين بسياقات ظروفهم. فالصحابة لم يكونوا ينزعون إلى الكمال لأنه لا يدرك  ؛ بل كانوا ينزعون إلى العمل من أجل تأدية الأمانة بإخلاص. و مع أنه لا يمكن للإسلام أن يكون في وضع أكمل و لا أقوى منه في زمن محمد عليه الصلاة و السلام ، و في ظل خلافة أصحابه الذين زكاهم؛  و زكاهم نص الوحي في مواطن كثيرة، إلا أنه مع ذلك لم تكن دولة المدينة-  تحت سلطة الرسول محمد عليه الصلاة و السلام و جبريل ،عليه السلام،  ينزل عليه من رب العالمين-    دولة مسلمة 100%؛ بل كان فيها منافقون  و فيها يهود أهل كتاب!  و كان عليه الصلاة و السلام يعرف مجتمع المدينة من غير المؤمنين بالإسلام و لم ينشر أسماءهم بين عوام المسلمين و إنما خص بها أمين سره حتى كان الصحابي الجليل عمر بن الخطاب يتثبت من صحة إيمانه  من عبيدة بن الجراح    ... و كانت الأمور تسير طبيعية طبقا لشريعة الإسلام و توجيهات رسول الله صلى الله عليه و سلم، مع احترام المخالفين في معتقداتهم و صون حياتهم و ممتلكاتهم ... و مع تجنب التشهير بأسماء المنافقين و هم معلومون للقائد الأعظم في تاريخ البشرية! 
و إذا كانت دولة محمد عليه الصلاة و السلام و شعب المدينة تحت سلطة النبوة ليسا مسلمين مائة بالمائة، فكيف نصدق أن الموريتانيين  كانوا يوما و على مدى قرون مسلمين 100%؟! 
ما يبدو لي ، و الله أعلم، أن الشعب الموريتاني ، كسائر الشعوب، كان يضم عبر تاريخه ربما أغلبية مسلمة؛ و لكنه كان يحتوي أفرادا أو مجموعات غير مقتنعة بالإسلام ؛ غير أن ظروف المجتمع القاسية و عزلته شبه الكاملة في صحراء جرداء حالت دون ظهور زندقة هؤلاء الأفراد أو المجموعات إلى العلن! و من هنا ولد بيننا  هذا الوهم الكبير الذي نزعم فيه أن شعبنا هو شعب مسلم بكليته؛ و الواقع أن شعبنا  فيه مسلمون و غير مسلمين، قلوا أو كثروا،  و إن منعتهم ظروف مجتمعية من المجاهرة بذلك . و من هنا ، (من وهم الشعب المسلم 100%) كذلك انطبع إسلامنا بالعاطفة و الانفعالية على حساب الإلتزام بمقتضيات الدين و جوهره. فالانفعالية الدينية، دون الجوهر الديني،  هي التي تجعلنا نمارس الكذب و الزور و الغش و السرقة ( تفشي سرقة النعال في المسجد و سرقة المال العام بالمليارات) ... و  فشو التحايل و اجتراح كل الموبقات في الإسلام... و لكننا ، مع هذا الاحراف،  نهب جميعا  في نفرة عاطفية فوّارة عندما يعبر أحد أبناء المجتمع بما كان يضمر من عدم الإيمان بالإسلام و العياذ بالله و ذلك مرده الوهم بأننا شعب مسلم مائة بالمائة... و هذه الانفعالية هي التي تدفعنا لتخطي أغلب  نواهي النبي عليه الصلاة و السلام إلا في مسألة الخمر، مثلا،  الذي يكتسي شربه في مجتمعنا معرة اجتماعية في اللاوعي المجتمعي؛ ليس من منطلق التقيد بالحلال و الحرام في الإسلام و إنما من خلفية أن الخمر لم يكن متوفرا في عاداتنا الغذائية لوجودنا في صحراء لم تعرف زراعة شجرة الكرم، فحسب!  فلو كان استهجاننا لشرب الخمر ناتج عن اتباعنا لهدي الإسلام، لاتبعناه هذا الهدي في الكف عن المنهيات الأخرى!
و في مقابل إسلامنا الانفعالي، يوجد الإسلام الحضاري في المشرق العربي الذي عرف منذ عهد النبوة الاختلاف في العقيدة الدينية؛ فتعايش فيه المسلمون و النصارى و اليهود و الصابئة و عبدة الشيطان و من لا دين لهم... هذا الإسلام الحضاري هو الذي دفع المسيحيين للدفاع عن الإسلام كأعظم إنجاز قومي حضاري للعرب بينما هم لا يؤمنون به كعقيدة دينية ؛ و هو الذي جعل المسلمين، في الجانب الآخر،  لا ينفعلون بمنتهى السلبية و العدمية  إزاء أي خطاب أو موقف لا يؤمن بالإسلام! و لذلك نرى البون كبيرا بين الآسلام الانفعالي و الإسلام الحضاري. ففي الإسلام الحضاري يحرص المسلم على الانسجام الكامل بين العاطفة الدينية و بين التطبيق العملي للأوامر و النواهي. و في الإسلام الانفعالي ينفصل العاطفي عن العملي، كما نرى في مجتمعنا. و في الإسلام الحضاري تبلغ روح التضحية أعلى مستوى لها في سبيل القناعة الدينية، و القناعات عموما،  بما في ذلك بذل النفس و الأهل و المال و الجاه،  بينما تبلغ التضحية في الإسلام الانفعالي أدنى مستوى لها... فلا يكاد الانفعاليون يضحون بيوم واحد من السجن في سبيل قاناعاتهم! 
و من هنا فإن على شعبنا-  و قد أصبحنا جزءا من العالم -متصلا بآخر زاوية في الشرق و الغرب من الكرة الأرضية - أن يدرك المعنى الإنساني و الحكمة الربانية من وجود عقائد دينية مختلفة و مواقف نفاق و منافقين في مدينة محمد عليه الصلاة و السلام... أكمل مدينة دينية في التاريخ!  أي أن الاختلاف سنة كونية ربانية لا سبيل لمنعها؛  و أن على أساسها تنزلت حكمة الله في منع الإكراه في الدين! 
إذن،  أرى أن من الحكمة توقع وجود مجموعة موريتانية( قليلة أو كثيرة)  تشترك معنا في حق و واجب المواطنة و تختلف عنا في العقيدة ( بعضها مسيحي ، و بعضها يهودي، و بعضها لائكي ... و بعض آخر عدمي ) و لا أرى من العقلانية أن نفور في كل مرة مع أي متنطع  تافه و هالك يخرج من الإسلام، و إنما يجب إعادة بناء تربية أبنائنا تربية دينية عميقة و خاصة عبر انسجام تصرفاتنا و عقلياتنا و ممارساتنا مع الإسلام و الهدي النبوي.
علينا أن نتوقف عن الكذب الجماعي و الغش الجماعي و التزوير الجماعي و السرقة الجماعية للدولة و للمجتمع و التخلي عن توظيف ديننا لأغراض دنيانا سياسية كانت أو فئوية ... باختصار علينا أن نطبق الإسلام بجوهره و عاطفته في أنفسنا و نجعله منهج عمل و أسلوب حياة... بدلا من الانفعاليات و الهبّات الظرفية المنبتة، حيال التنطعات،  التي لا يحترم أصحابها في العمق تعاليم عقيدتهم و لا يستطيعون بها أن يوقفوا   سنة الله في الاختلاف!