-ينسى هذا الموظف أو ذاك، وهو يضع أوراقا بيضاء جديدة على الكرسي لِيقف عليه بحذائه، أنه أهدر بعض المال العامّ وهو يعتقد أنه يحافظ على بعضه الآخر (نظافة الكرسي).. هي ذي حال بعض من يُنكِر أنه يساهم في هدر الثروة الوطنية ولو بالنَّزر القليل ما دام يجلس على كرسي نظيف استخدمه لغير غرضه ولو لمرة واحدة.
ترمز هذه الصورة إلى كثير من الأعمال التي نقوم بها في أكثر من موقع، ويُصرَف فيها المال العامّ من غير أن ننتبه إلى ذلك الجانب المتعلق بهدر الإمكانات وتبديد الثروة.. إن إتلاف أوراق بيضاء “قليلة” لا يُمكن أن يُصَنَّف ضمن جرائم الاختلاس ولا الفساد، ولكن الفعل في حد ذاته يرمز إلى سلوك غير مسؤول لِمن قام به، يخفي ما هو أكبر.
يتجلى من خلال هذه الصورة الرمزية ذلك البُعد الآخر الذي كثيرا ما نغفله عند الحديث عن الرَّشَادة في استخدام المال العامّ. إن المسألة تتعلق بعقلية الرجل مع الورق والكرسي أكثر مما تتعلق بالقيمة المالية لتلك الأوراق. إذ بقدر ما تبدو قيمة الورق الذي تم إتلافه ورميه في القمامة ضعيفة، لا ينتبه القائمُ بذلك الفعل إلى أن ذلك يجسد سلوكا غير سوي لفرد يزعم الاندماج في مشروع البناء الوطني ولا علاقة له بالحالة المتدهورة لقطاعه.
وما ينطبق على الورق ينطبق على كل ما له علاقة بالعناصر التي تدخل في العمل التنموي. من الوقت الذي يتم تضييعه في مكالمة غير ضرورية أثناء فترة العمل، إلى عدم إتقان العمل الموكَل لمن يقوم به مستندا إلى كون الاختلاس هو ذلك المباشر الذي نعرفه في شكل أموال وأشياء عينية.
هذا الجانب من مشكلتنا لا نراه في العادة، بل لا نهتم به، وقد يقوم به أكثر الناس نزاهة عن غير وعي، وهو الدليل أننا في الغالب ما نُغطِّي انعدام أو ضعف روح المسؤولية الفردية لدينا بوجود لا مسؤولية جماعية يشارك فيها الجميع وهي السبب المباشر فيما نحن عليه… هل سأل كل مِنَّا نفسه ما إذا كان يساهم في مستواه بإتلاف قليل من الورق في عمله لكيلا يتسخ كرسيه؟ أو إتلاف قليل من الثروة الوطنية وهو يقوم بعمله؟ أم بدا له مثل هذا السلوك أمرا عاديا ما دام لا يدخل في نطاق السرقة ولا الطمع في تحقيق استفادة شخصية؟
يبدو أن هاجس تحميل المسؤولية للآخرين، طغى على منطق تفكيرنا في مجال الإصلاح أو التغيير أو حتى تطوير الذات.. نسينا أن المسألة تتعلق بتأثير متبادل للكلّي والجزئي، للفرد والمجتمع، لهدر القليل من المال العامّ وكثيره، للنظام العامّ والسلوك الخاص.
صحيحٌ إن درجة المسؤولية تختلف، ولكن المُحصِّلة في آخر المطاف واحدة..
بمعنى أن علينا ألا نستهين بالقليل الإيجابي الذي نقوم به لإصلاح المحيط المباشر الذي نحن مسؤولون عليه، وذلك من صميم ديننا الإسلامي الحنيف، وكم لنا في الأثر من نموذج يحثّ على ذلك، إلا أننا أضعنا الكثير من الوقت ونحن ننتظر ذلك التغيير السِّحري الذي سيحدث دفعة واحدة وينقلنا من حال إلى حال.
لقد غابت عَنَّا العلاقة بين مَن يُتلف أوراقا بيضاء تبدو بلا قيمة، ومن يُتلف أوراقا بنكية تبدو لنا هي وحدها ذات قيمة تستدعي العقاب