هذا مقال أدبي بامتياز، وسياسي، وقيمي، واجتماعي رائع،، وقد يستغرب القارئ من هذا الحكم الانطباعي إن شاء له ان يستغربه سابقا على المقدمات، و النتيجة...
أما الجانب الأدبي، فاتركه للمخصصين في هذا المجال، ولا يخطئ التوصيف اعلاه، أن " بعض المسرودات، هي وظيفية بصورة قوية( مثل الحكايات الشعبية، وبالمقابل فإن بعضها الآخر يكون مؤشرات بصورة واضحة...وبين هذين القطبين هناك سلسلة كاملة من الأشكال الوسيطة، تتعلق بالتاريخ، بالمجتمع، بالجنس"، وعلى مستوى التصنيف للخطاب في مقال / محمد فال ولد عبد اللطيف/، ينبغي الوقوف عند " معطيات صرفة، وذات دلالة مباشرة.. المؤشرات تتطلب نشاطا، او افكا للرموز: والمقصود بالنسبة للقارئ أن يعرف طبعا، او جوا.." - رولان بارت، المسرودات ، ص٢٥ -
وقد يكون من المهم الإحالة إلى نظرية " جيرارد جينيت" في" التمييز بين نوعين من الوصف: التزييني، والدال، وان الوصف التزيين للخطاب الأدبي"..
............
اما الجانب السياسي، فأول ما أحال اليه مقال محمد فال عبد اللطيف، هو الإشارة إلى واقع" الدول الافريقية في العصر الحديث"، وفيها استحضار للإشكال، المعضل، لواقعنا الوطني، والافريقي عموما، فنحن من وجهة التصنيف للنظم السياسية، نعد من دول" الاستعمار الجديد" ان لم نكن حصرا - على حد تعبير جان بول سارتر - ، والذي ميزها عن غيرها من دول العالم المعاصر، هو استغفال الذات لنفسها في قضية الاستقلال، وتوقع نتائج مرجوة دون مواجهة تعطي نتائج بديلة لانتظارات أخرى في ظل التبعية للغرب الامبريالي، وهذه العلاقة الاستلابية في مجال الانتظار،، تموضعت في مجالين: التبادل الرمزي، كالثقافة، والمادي، كالواردات،،
أما الحاضنة المستقبلة، فهي المجتمع التقليدي المدجن، وقد ظهرت قابليته للتوظيف لصالح المستعمر منذ القرن الماضي، وكذلك للاشكال، المظاهر الأولية للدولة الحديثة، وقد يقع الصدام عاجلا، او آجلا مع العوامل الأخيرة لدولة التحديث العملي...
وما يحكم على احتضار مجتمعاتنا، هو إقصاء عوامل التحديث في الدولة الحديثة، ومحاولات تطعيم، لقاح
العلاقات الطبيعية دون تقعيد " العقد الاجتماعي" الذي تزامن انتاجه فكريا، وتجسيده تاريخيا في واقع الغرب، كنظام للدولة في العصر الحديث،، بينما في مجتمعاتنا، لا زال هناك من يعتقد جازما بقيمة التنازل عن الحقوق الطبيعية لدى الأفراد مقابل، لا صيانة الحقوق في العقد الاجتماعي لمجتمعات في القرن الواحد والعشرين، وهذا هو الطرح القائم لدى السياسيين الافارقة، ومن ضمنهم الموريتانيين.. !
والمجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، من جهة الواقعية الموضوعية - لا الساذجة - لم تسلم اجيالها الحالية بديمومة الواقع السياسي الذي افترضه التصور ل"جان جاك روسو"، ك(( الحالة الطبيعية الأولى المتميزة بالخير، والسعادة، والفضيلة، والمساواة،،))
لماذا؟
لأن ما يسود من المجاعات، والحروب، والاستغلال، والنهب الاستعماري، وتوظيف علاقة التبعية للغرب الامبريالي ، واستدامة التخلف الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي،، كلها عوامل تحمل فناء الانظمة السياسية، وسياتي دور كنسها، ضمن مخلفات الماضي بعد وقت،، وذلك على غرار هروب المحتلين قبل المواجهات في تواقيت الحسم التغييري، ولن يجدي أشكال النظم السياسية القائمة، اعتماد تعدد الانقلابات، وتجريب استبدال الرؤساء خلال الانتخابات الرئاسية..
......
ومن الإحالة الى واقع الدول الافريقية في العصر الحديث الذي استهل به محمد فال مقاله، لم يغيب عن ذهنه استحضار الاختلال في الأدوار، وفي الوظائف، ومستوى مكانة الفرد في المجتمع الموريتاني، وكيف يمكن للفرد أن يصبح متنفذا، والمتنفذ في علم النفس الاجتماعي، هو "الشخص الذي يبحث عن مصالحه الفردية" بمعزل عن مراعاة مصالح المجتمع، خلاف ما في المجتمع التقليدي، وخارج وسائل الضبط القانوني خلاف ما في المجتمع المعاصر، حيث الفردانية كفلسفة للحياة، وهذه من اسقاطات الوعي الثقافي الزائف لدى المثقفين المنفصلين عن الواقع الاجتماعي، حتى وان كانوا يعانون من مآسيه، كباقي افراد المجتمع، وبالتالي فلا مظاهر للحداثة قبل تحديث المجتمع الموريتاني..
ومن هنا نقرأ نظرية التوصيف، وقد يقول غيري نظرية التعليم في تحديد اهداف "الوجيه" في تحقيق "الوجاهة"، ووسائلها، اساليبها، في إطار التأريخ لواقع التردي الأخلاقي، لوعي الفرد بمصالحه الموجهة أنانيا، وإشباع رغائبه في"الوجاهة": (( مفهوم، لا تتوقف مقوماته على توفر شروط واقعية، ولا على انتفاء موانع معروفة)) في المجتمع، وهذا نقد لاذع للمجتمع، و للمرجعية الثقافية، ولعل الأمر، يفرض طرح السؤال:
أين دور المعايير في الانساق الثقافية، اذا كانت موجودة، وكذا عن التماسك الاجتماعي في الأسرة، القبيلة، المجتمع، وعن انسراب وسائل الضبط لدى مؤسسات نظام الحكم، الادارة، ومنظات المجتمع المدنية،،، ؟!
وكأن الكل في حالة سبات شتوي، بحيث ان الفرد لا يجد عناء في تدوير العلاقات في المجتمع، كما يحلو له، دون جهد، وتعبيد السبل الوعرة، لذلك يشير الكاتب (( فقد توجد الوجاهة دون كبير عناء، إذا عرف المترشح لها كيف يتصرف )) !
وفي المقال احالات ، تشير الى التفكك الجزئي للبنيات الاجتماعية في مجتمعنا التقليدي، كدور " النسب الطيني"، وهذا المحمول للنسب، أعطى دلالة معبرة عن انعدام قيمته، وغياب الاخيرة وظيفيا في مجال العلاقات الاجتماعية في المجتمع الحالي الذي تظهر سماته الأولية، استئنافه لتشكيل علاقاته الاجتماعية غير المتأثرة بالبيئات الحضرية، والقروية سواء منها، من في المدن، أم القرى في المراكز الادارية، و المقاطعات، فهي علاقات منقولة عبر (( الكلام لإثبات الذات، وتأصيل القيمة، وتأكيد الشخصية))،، وهذا الثالوث: يظهر الانقلاب الحاصل في المجتمع الغائب قيميا، وقد حل محله المعززات الاستبدالية بحضور رغائبي للشخص بالكلام، وبالقيمة المادية معا...!
وهنا نعيد التذكير بأهمية هذا الاستطلاع الوصفي، في "نظرية المسار، والهدف" من عشر نصائح لتصير وجيها (( المحافظة على الجماعة،،استقبال المسئولين،،حضور المهرجانات،، تصدر المهرجانات،، حدة معروفة - ملامح نظرية السمات - ،، خدمة القبيلة بما يحقق مصالحك،، الاستشارة في البلدية ،، او لقاء حاكم المقاطعة، او المركز الإداري،، الإبتعاد عن الوظائف الدينية،، الدور في الحملات الانتخابية،، الانتهازية الذكية.))
وقد يساعد الافتراض تحليليا، في فهم الرؤية في المقال على أساس التوصيف، والتشخيص، لا التنظير، و تقديم الحلول في وضع المعايير الاجتماعية ، ولو أنه واقع مختل، إن على مستوى وعي الفرد، ام حضور المجتمع، أم عجز نظام الحكم في( الدولة الحديثة).
والأقرب الى الأحتمال، هو النقل الأمين لذهنية عامة في المجتمع الحالي، حتى يعرف المستوى الذي هو عليه ، وفي ذلك تسجيل لواقع، قد يكون موضوع تقييم لأجيال المستقبل عن الحالة الذهنية العامة لأفراد النخبة المثقفة، النخبة التي شكلت نظيرتها في الفكر الواقعي عند "أرسطو" من الوسطين: الارستقراطي الديمقراطي، والأوليغارشي، لتسير النظام السياسي في مجتمعها، وفي العصر الحالي، اعتبرت النخبة المثقفة، المدافع الأمين عن الحقوق الفردية والمجتمعية في البرلمانات التشريعية، وناطقا باسم القوى السياسية للحراك الاجتماعي الوطني العام..
بينما هي في مجتمعنا انحصر تفكيرها في " النصائح العشر لتصير وجيها"، كعينة منها على الأقل..
و السؤال الذي يحتاج الى التفكير في الاجابة عليه، هو:
هل المعايير المذكورة اعلاه ، هي مجرد وسائل لتحقيق الغايات، الاهداف التي ان تحققت للفرد، قد تدمر البناء الاجتماعي، او العلاقات الاجتماعية جزئيا، او توسيع الشرخ، وكل ذلك على انقاض المجتمع التقليدي، أو على انقاض "مسوخ" الدولة الحديثة بعد عجزها - الذي لا يرتاب فيه مراقب - عن مأسسة النظام السياسي في الدول الافريقية في العصر الحديث، وكعدم قدرتها على التفاعل مع واحد -على الأقل - من عالميها الداخلي، المجتمع التقليدي، او الخارجي لمواجهة تحديات العصر؟!