يقول الروائي الإسباني: كارلوس زافون «الشعر يُكتَب بالدموع، والرواية بالدماء، والتاريخ بفقاعات الصابون».
كانت شموس المسلمين أربع في جهات أربع، بغداد في المشرق، ونيسابور في خراسان، وقرطبة في أوروبا، وتينيكي في المغرب العربي..
كانت مدائنا تبعث النور سرمديا في العقول: علما وفهما ودراية ودراسة.. تاريخ محفور في ذاكرة الأمم، تحكيه شواهد الأيام وترويه دفاتر الأئمة.. شاهدا ومشهودا على الناس زارافات ووحدانا..
ثمّ انقضت تلك الديّار وأهلها *** فكأنها وكأنهم ما كانوا
بعد صفحتين من نور ومجد، تقع تينيكي بين الذكرى والتاريخ، ترتفع على سهل من علم لدني وتتوسد حجارة من إباء منضود، يحكى الرائي ببصيرته لخطى السادة، أنه يرى صبية يحملون ألواحا قد دُبّجت بالآي الحكيم، وشيوخا يتدارسون نصوصا من المدونة، وجوارٍ سابحات في جواهر المعاني، وفرسانا شجعانا يمتطون الصافنات من الجياد، ونخلا طلعها نضيد، ودورا مسورة بالكرم والعفاف في مدينة تلتحف وشاحا من خلود..
كأنك واقف فيهم خطيبا *** وهم وقفوا قياما للصلاة
اليوم وعلى ضفة من العدم والفناء تقع تينيكي بين السراب والغبار، والتجاهل والتناسي، والبعد والنوى، تعوي حصاها وتكتب قبورها سطرا شاهدا على العُمران والخراب، وعلى أن السلام خيار الشجعان، وأن الحرب ذميمة المشاهد، رديئة النتائج وخيمة العواقب..
فأبناء الفاتحين وأحفاد المرابطين وبقايا جيوش بن تاشفين، بعد الرباط والفتح والإشعاع دالت بهم خيارات النفس إلى حرب لم تبقِ ذكرا وأفنت كل جهود الآباء..
كانت مدينة على بعد خطوتين من جامع شنقيط العريق، بقيت منارة الجامع فيما تهدمت أسوار تينيكي..
فالله أفناك أمر لا مرد له *** وسوف يُحييك والأيام تارات
لا بكاء على طللٍ ولا رجاء لمستحيل ولا اصطيادا ليأس، لكن فلسفة السبب والنتيجة تقول: أن نفس الأفعال تؤدي إلى نفس النتائج..
الآباء الذين عمروا تينيكي وكتبوا إلياذات من مجد وفخر، فعلوا ذلك بافتضاض الحِكم، وتتبّع فرائد المعرفة، وغرس العلم في الصبايا والصبيان، والسعي لتحصيل المعارف، وإتقان أساليب الحياة..
ما فعله الآباء ليس معجزة يقصُر عنها الأبناء، والبارّ بآبائه من خطى خطوهم في الخير وسعى سعيهم في الرشاد، ثم تجنب نفس الأخطاء، لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين..
والناس كالناس والأيام واحدة *** والدهر كالدّهر والدنيا لمن غلبا
في عصر الدولة الجامعة، وفي إطار احترامنا جميعا لسلطتها والسعي للخير والتكامل مع إخوة الوطن جميعا، فإننا نتمنى على السلطات العمومية في البلد أن تراجع أولوياتها في ناحية التراث الوطني وإحياء تاريخ البلد المشرف، فتينيكي التي كتب عنها ابن بطوطة، هي تاريخ مشترك للجميع في إطار مسمى الجمهورية، وإحياء تراثها والاعتراف بمساهمتها في سمعة البلد العلمية ليس لقبيلة ولا جهة، إنما هو للجميع..
فآب ولد اخطور والمختار ولد بونة وسيد عبد الله ولد الحاج إبراهيم ومحمد محمود ولد التلاميد ولمجيدري ولد حبلل وغيرهم من علماء هذا البلد الذين رفعوا اسم البلد كان العالم يرى فيهم وطنا بأسره دون الاعتبارات الأخرى....
والشيء ذاته من مدننا التاريخية، كمدينة شنقيطي، وتيشيت، وودان، وأوداغوست، (وتينيكي) التي بلغ صيتها ما بلغ، والتي تحتاج إلى اهتمام جاد كجزء من تاريخ هذا البلد، فإحياؤها إحياء لجزء من حضارة البلد، وستزيد حتما من قوة وجوده وسمعته عالميا..
وكذلك تاريخ المرابطين وشهداء المقاومة، وكل من ساهم في رفع اسم هذا الوطن عاليا في سماء الخلود، ينبغي أن يحظى بحقه في البحث والذكر والاهتمام..