في مثل هذا اليوم من العام 1952 تفجرت في مصر ثورة الضباط الوحدويين الأحرار بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يرحمه الله.
حملت الثورة من يومها الأول كل هموم وآلام وأحلام الشعب العربي وطموحه في التحرر والوحدة والنماء.
ومنذ اليوم الأول لها أيضا؛ وجدت الثورة نفسها في مواجهة أعداء ألداء كثر؛ على جميع المستويات: المحلية والإقليمية والدولية.
في الداخل واجهتها قوى الإقطاع والفساد؛ وفي الخارج كانت لها بالمرصاد: الرجعية العربية وقوى الإستعمار والامبريالية والصهيونية العالمية.
لم تستسلم الثورة وقائدها لأي من هؤلاء الأعداء الشرسين، ولم تسع للتحالف مع أي قوة تشترط عليها التنازل عن أي هدف من أهدافها، أو مبدأ من مبادئها؛ فخاضت حروبا كبيرة ومعارك رائعة على أكثر من جبهة وأكثر من صعيد..
كسبت معارك كثيرة وحققت أهدافا عظيمة كان مجرد التفكير بها يبدو ضربا من الجنون أو الخيال:
- أممت قناة السويس
- وهزمت العدوان الثلاثي: الصهيوني، البريطاني، الفرنسي
- بنت السد العالي
- حققت أول وحدة عربية قبل أن تتآمر عليها قوى التجزئة والانفصال الإقليمي
- أسست حركة عدم الانحياز وفرضت على العالم حق الدول النامية حديثة الاستقلال في حرية قرارات دولها السيادية بعيدا عن همينة المعسكرين الشرقي والغربي
- أحيت دوائر التعاون الثلاث: العربية، والإفريقية، والإسلامية؛ فجعلت من دول تلك الدوائر قوة تأثير فعال في المواقف الدولية وفي قرارات الأمم المتحدة
- نهضت بالاقتصاد المصري متحالفة مع قوى الشعب العاملة، ومحققة عدالة اجتماعية، واكتفاءا ذاتيا في الانتاج؛ فكسبت تأييد الشعب المصري، وتأييد كل الشعوب العربية، وتطلع شعوب دول العالم الثالث إلى أن تسلم تلك الثورة من مؤامرات الأعداء حتى تكون تجربة ثورية وإنسانية تبشر بانعتاق وتحرر ونهضة كل ضحايا الاستعمار والإمبريالية..
- كسبت للعرب عامة؛ وللفلسطيين خاصة؛ تأييدا رسميا وشعبيا على صعيد دولي وقاري واسع.
- نظمت صفوف المقاومة الفلسطينية ودربتها وزودتها بالمال والسلاح؛ وشكلت لها حضنا وسندا لا يغدر ولا يخون.
- خاض جنودها البواسل حروبا طاحنة ضد أعداء الأمة؛ فكسبوا معارك وخسروا أخرى؛ لكنها أبدا لم تخسر الحرب، ولم تفرط قط في هدف أو مبدأ، ولم تتنازل عن حق أو تقبل بسلام مهين، أو الاعتراف بعدو محتل وفاء بوعد من لا يملك لمن لا يستحق.
وحتى تحت وطأة آلام النكسة وارتداداتها القاسية؛ ظهر الزعيم جمال عبد الناصر أكثر إيمانا بعدالة قضايا أمته وبمبادئ ثورته العظيمة؛ فكانت صيحاته المدوية:
"ارفع رأسك أخي العربي؛ فلقد مضى عهد الذل وانقضى".
وكما كان مشجع الجماهير العربية ومحرضها، ورافع رأسها، وباعث الأمل والثقة في نفوسها؛ كان كذلك أيضا مع حكامها وقادتها؛ فجاءت شعارات قمة الخرطوم ردا على النكسة؛ إعلانا صريحا وحاسما برفض الاستسلام:
"لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بالعدو الصهيوني"...
وكان وكان.. أن حاز الزعيم الراحل ذلك اللقب الوسام الذي منحته له جماهير مصر، وجماهير الأمة العربية كلها:
"ناصر.. حبيب الملايين"..
تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه الفردوس الأعلى من جنته.
ولعل من مفارقات القدر؛ أنه منذ استشهاد الزعيم الراحل؛ مازالت أنظمة الردة والاستسلام في مصر تحتفل بذكرى هذه الثورة باعتبارها عيدا وطنيا لجمهورية مصر العربية؛ بعد أن تخلوا عن كل مبادئها وأهدافها سواء تعلق الأمر بحرية واستقلال مصر، أو بتنميتها، أو بريادتها لمسيرة نضال الأمة العربية في سبيل الحرية والعدالة والوحدة، أو في دعم نضال الشعب الفلسطيني، ومواجهة العدو الصهيوني ورفض الاعتراف به أحرى التطبيع معه، ناهيك عن مواجهة الجشع الرأسمالي وتحرير فقراء الأمة من آسار الاستغلال والحاجة والحرمان..
فأي معنى لهذه الاحتفالات؛ إلا أن يكون إمعانا في تشويه الثورة ومبادئها، والتنكر لقائدها وإنجازاتها!!
حكام ومسؤولون عرب كثيرون مازالوا كلما وجدوا فرصة للحديث عن تلك الثورة وقائدها؛ أثنوا عليهما في استحياء مغازلة لجماهير أمة يعرفون أنها مازالت تتعلق بتلك الحقبة الذهبية من تاريخنا؛ إلا من جهلها من أجيالنا المعاصرة؛ وذلكم ثناء لا تخفى دوافعه الكيدية على عاقل؛ حيث وصلت الأمة بسبب تيار الردة لذات الظروف التي استدعت بإلحاح قيام الثورة فكان الجواب في الثالث والعشرين يوليو 1952.. هذا إن لم تكن ظروف اليوم أسوأ بكثير من ظروف الأمس وأكثر إلحاحا في استدعاءا ثورة ناصرية جديدة..
كما لم تزل بعض الجهات الشعبية، والنخب الوطنية تحتفل بهذه الذكرى العظيمة وتحتفي بها بسذاجة لا تخفي كيف تضر بالذكرى وبقادتها، وبمبادئها النبيلة وأهدافها العظيمة؛ حيث لا تجد في سلوك ولا أسلوب ولا حياة كثير من هؤلاء المحتفلين؛ ما يجعلك تميز بينه وبين غيره من قوى الرجعية والتخاذل العربي..
لقد سئل الزعيم جمال عبد الناصر مرة:
"أين هي نظريتكم للتغيير والثورة"
فكان رده:
"لقد جئنا بالمبادئ الستة، وقدمنا الميثاق لهذا الجيل؛ ولو قعدنا نؤلف نظرية؛ لما صنعنا 23 يوليو.. إن كتابة نظرية التغيير والثورة هي مسؤولية مثقفي الأمة؛ لأنهم أكثر تفرغا ومقدرة أيضا"..
يرحمك الله، كم كنت عظيما، عمليا، ومتواضعا..
لقد صدقت؛ لكن مثقفي هذه الأمة قد ابتلاهم الله بتأليه الحكام والزعماء؛ فعجزوا عن إبداع حلول لمشاكل أمتهم المتجددة والمتغيرة أبدا؛ فلم يتعلموا غير ترديد ما يقوله أو يقره الزعماء والحاكمون، ومن منهم حاول أن يجتهد فيبني على المبادئ ويضيف تطويرا وتعميقا، تنكر الناس له واعتبروه خرج عن نص الزعيم؛ وكأن قول الزعماء والحكام والملهمين، كتاب آخر منزل من رب العالمين..
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
أخيرا؛
ربما يكون من المصادفات اللافتة، أن تتزامن الذكرى السبعين لثورة يوليو المجيدة، مع الذكرى الثامنة والثلاثين لانتفاضة 1984 الناصرية في موريتانيا، وذكرى شهيدي تلك الانتفاضة: سيد محمد ولد لبات وأحمد ولد أحمد محمود يرحمهما الله.
ولئن كانت ذكرى شهداء الانتفاضة تمر مجددا؛ دون أن تتحق الأهداف النبيلة التي دفعا روحيهما الطاهرين ثمنا لتحققها؛ إلا أن الأيام والوقائع والدروس والعبر؛ كلها مازالت تجدد التأكيد لأبناء هذا الشعب المحفوظ؛ إن شاء الله؛ أنه لا خلاص ولا أمل في المستقبل إلا بتحقق تلك الأهداف وشعاراتها الدالة:
- لا للتحالف العسكري الرأسمالي
- لا لليبرالية الصحة والتعليم
- ضريبة التبرع تساوي ثراء الحاكمين
- بالدم واللهيب يتم التعريب
- لا لإهانة شعبنا في الريف
ووووو..
وهنا نسأل؛ لماذا بعد كل هذه العقود نجد أنفسنا دائما حيث كنا ولم نزل؛ إلا قليلا من تطور شائه ومنقوص؟؟!!
لعلنا نجد الجواب في كلام بليغ للزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر؛ حيث يقول:
"إن الأمل الحقيقي هو في استمرار النضال، ويتأكد الاستمرار حين يكون هناك في حين؛ جيل جديد على أتم الاستعداد للقيادة ولحمل الأمانة، ومواصلة التقدم بها: أكثر صلابة من جيل سبق، أكثر وعيا من جيل سبق، أكثر طموحا من جيل سبق".
وقوله يرحمه الله:
"إن النصر عمل، والعمل حركة، والحركة فكر، والفكر فهم وإيمان؛ وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان".
تلك كلمتان نضعهما بين أيدي الجيل الجديد من شباب أمتنا عساه يكون أكثر صلابة، ووعيا، وطموحا، وأمانة، من أجيال سبقت، ومن نخب ترهلت واغترت وارتكست.
ميثاق