أكوام النقود المتراكمة في الضريح وأعداد الفقراء المتزايدة في الحي ترسم لوحة فيها الكثير من التناقض والفنتازيا المتشكلة من جدلية: ميت متخم وحي جائع، كوفية ممزقة وعمامة مزوَّقة، في منظومة من العلاقات المفاهيمية المختلة.
تصبح أكوام النقود في «المقام» رمزاً لتخمة الضريح وامتلاء الموت في مقابل جوع الحياة وفقر الفكر، في ثقافة يقدم أصحابها صدقاتهم ونذورهم للموتى في وقت هم فيه بأمس الحاجة إلى ما قدموه، وذلك بحثاً عن متنفسات روحية وعاطفية بين الأضرحة، وهرباً من واقع بائس إلى كرامات متخيلة، حيث تأنس النفس ويجد الفقير شيئاً من الخدر الروحي اللذيذ الذي ينسيه مرارات الواقع، في الحي الفقير الذي يقع فيه الضريح المتخم، الذي لا يوجد إلا في الأحياء الشعبية الفقيرة، بعيداً عن أحياء الأثرياء التي لا وجود فيها لمقامات أولياء ولا لأضرحة أئمة، لأن لدى سكان تلك الأحياء «بركات مادية» كثيرة تغنيهم عن الذهاب لتسول بركة الأموات.
وليس من قبيل المصادفة أن معظم الأضرحة المكتظة بالنقود موجودة في أحياء شعبية فقيرة يأكل الجوع أمعاء سكانها، وتنتشر فيها المعتقدات التي تؤسس لبذل ما في اليد للضريح، من أجل الحصول على أضعاف مضاعفة ببركة النائم تحت الرخام، حسب «ثقافة الضريح» التي تحفز على التضحية بالحاضر خارج القبر في سبيل مستقبل منتظر يخرج من بطون القبور.
هؤلاء البسطاء هم ضحايا ثقافة نفعية تقتات على رفات الأموات، حيث يمثل «القيِّم» على القبر السلطة الانتهازية التي وظفت الضريح توظيفاً مادياً يسهم في سلب ما في جيوب فقراء الحي، ليجعلها في جوف الضريح، أو ـ بالأصح – في جوف قيِّم الضريح الذي لا يمثل إلا رأس جبل الجليد لشبكة معقدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكلت على مدى قرون من اختلال المفاهيم واضطراب المعتقدات.
وقد ارتبطت هذه الطقوس بنظيرتها من طقوس الوقوف على الأطلال والخرائب لدى الشعراء قبل الإسلام الذين وقفوا طويلاً على ديار أحبة رحلوا وتركوا وراءهم طلولاً جرت حولها دموع العاشقين، في لون شعري كانت القصائد تُفتتح به، قبل أن تتطور طقوس الأضرحة وتنتج فنونها التي يندغم فيها الدين والأسطورة وبقايا من رثاء الراحلين في لون واحد يعطي زوار الضريح شيئاً من سلوى مفقودة وأمل غارب، ويعطي بالمقابل سدنة القبر ما في جيوب هؤلاء الفقراء الباحثين عند الضريح عن بعض عافية روحية وبدنية.
وبفعل ثقافة كتلك تقول الإحصائيات إن أكثر من نصف سكان الحي الذي يوجد به الضريح يرزحون تحت خط الفقر، وإن المؤسسات القائمة على تلك الأضرحة تأتي في مقدمة الأثرياء على مستوى البلد والإقليم، حيث يرجع سبب تخمة القائم على الضريح إلى خواء جيب زائر القبر، ويرتبط فقر الزائر بتخمة السادن ارتباطاً وثيقاً.
ونتيجة للجدوى الاقتصادية لتلك الأضرحة والقبور تتنازع جهات عدة صلاحيات القيام عليها في البلد الواحد من وزارة الأوقاف إلى المؤسسات المرتبطة بالأضرحة إلى شخصيات دينية نافذة إلى بعض من يزعمون الانتساب لصاحب الضريح، حيث لا تخضع تلك الأموال لأي نوع من أنواع الرقابة، ولا تفرض عليها ضريبة، ولا يعود ريعها على أي من المرافق الخدمية التي يفترض أن ينعم بخيرها الحي الذي يضم هذا الضريح أو ذاك.
تقول الإحصائيات إن أكثر من نصف سكان الحي الذي يوجد به الضريح يرزحون تحت خط الفقر، وإن المؤسسات القائمة على تلك الأضرحة تأتي في مقدمة الأثرياء
ولأن وجود ضريح في مكان ما يعني لبعض المنتفعين العثور على كنز مطمور فإن تاريخ تلك الأضرحة قد شهد تنافساً شديداً بين القائمين عليها ومبالغة في «أسطرة» أصحابها، بأسلوب تسويقي لغرض جلب المزيد من الزوار أو الزبائن الذين تؤثر فيهم الدعاية الدينية، ويميلون عادة إلى الخضوع للمرشد الروحي الذي يحدثهم عن الخوارق التي كان المدفون يقوم بها في حياته، كل ذلك لإقناع الزوار بقدرة صاحب الضريح على إحداث معجزة تنقلهم من حال إلى حال، وصولاً للهدف النهائي لتلك الدعايات الأسطورية، وهو الحصول على ما في جيوب هؤلاء الزوار الذين يختارون أفضل ما لديهم لتقديمه للضريح، طمعاً في الحصول على بعض البركة وبعض الرزق، وبعض الشفاء من أمراض مستعصية.
وحدث في حالات كثيرة أن تم تنازع الميت بين ضريحين، وأن تم إشهار ضريح لا يعرف العامة عن صاحبه أية معلومة تاريخية موثقة، سوى أن الولي صاحب كرامات وخوارق، وحدث أن سعى البعض إلى اجتراح أضرحة للتكسب، وأن حاولت بعض الجماعات الترويج للضريح الفلاني على حساب الآخر، كل ذلك لما للضريح من سطوة روحية ومردود اقتصادي، بل ونفوذ سياسي في كثير من الأحيان.
ونتيجة لبيئات الفقر التي أنتجتها صناعة الأضرحة في ثقافتنا، ارتبطت تلك الأحياء الشعبية بعلل اجتماعية أخرى على علاقة بالفقر، حيث يروج تعاطي الأسحار والذهاب لقارئات الفنجان والكف والمشعوذين والدجالين، ناهيك عن تردي المستويات التعليمية وانتشار المخدرات وغيرها من العلل والأمراض الاجتماعية في تلك الأحياء.
واللافت في هذه الطقوس أن أكثر الداعين إليها من الملالي والشيوخ لا يشاركون فيها، ذلك أن تلك العمائم لا تتوخى إلا المردود المادي الضخم لتلك الأضرحة، وهذا هو الهدف الأساس من استمرار «صناعة الأضرحة» إلى يومنا هذا، والهدف من استمرار الترويج لها ورفعها إلى مصاف الفريضة الدينية التي لا تكتمل أركان إسلام المسلم إذا ترك الاشتراك فيها، أو حرم من بركة الضريح التي لا يحرص على الحصول عليها السدنة والمعممون.
ومع استقراء الواقع المعيش نجد أن «ثقافة الضريح» ليست مقصورة على زيارة الولي الصالح أو الإمام المعصوم، ولكن ثقافتنا تحفل بأشكال وأنواع من الأضرحة المتحركة، فالصندوق الخيري الذي لا يرى رواد المساجد خيره ضريح، والجمعية غير الربحية التي تسرق أموال المتبرعين ضريح، والحزب السياسي الذي يسرق اشتراكات الأعضاء وهبات التجار لصالح قياداته هو أيضاً ضريح لأولياء غير صالحين، والمؤتمرات الدولية التي تجمع أموال المانحين ليُصرف أكثرها على السفريات والنثريات والأجور هي أضرحة كبيرة، وشركات المساهمة التي تأكل أموال المساهمين والبنوك التي تلتهم جل أرباح المودعين، والمؤسسات التي تمتص جهد الموظفين والشركات التي تمارس الاحتكار، ووسائل الإعلام التي تقوم بعمليات مختلفة لغسل الأدمغة وحشو الأذهان بمواد لا حدود لضحالتها، والبرامج المتلفزة القائمة على ابتزاز المشاهدين، والشعارات الوطنية والدينية والقومية كلها تنويعات مختلفة لضريح واحد يجسد ثقافة التكسب غير المشروع، والاستغلال البشع للحاجات الروحية والمادية للناس، من أجل استلابهم مادياً وعاطفياً، وكلها انعكاس لشخصية القيِّم المعمم الذي يصرخ في الناس لحثّهم على التخلص من «وسخ الدنيا» ورمي النقود داخل الضريح لينالوا بركات الميت فيما هو يجمع آخر الليل دموعهم وعرقهم ونقودهم المتكدسة داخل الضريح ليتقاسمها مع بقية اللصوص، في استمرار فاضح لعمليات إثراء الأموات وإفقار الأحياء في ثقافتنا المليئة بغير قليل من العلل والتناقضات والأوهام والأضرحة الدينية والسياسية.
محمد جميح كاتب يمني