في نهاية القرن 18م كانت فرنسا قد أنجزت ثورتها، وبعد تلك الثورة بتسع سنوات بدات أعينها تتفتح لاحتلال القارة الأفريقية، بدأ نابليون أولى حملاته الافريقية من مصر بيد أن ولعه بفلسطين واحتلال الأماكن المقدسة عند المسيحيين بها جعلته يعدل خططه فاجتاح فلسطين وهزم على أسوار مدينة عكا الفلسطينيه.
احتاجت فرنسا عقدين من الزمن لتتعافى وتلملم جراحاتها تلك وتعاود الكرة مرة أخرى، فبدأ احتلالها للجزائر سنة 1830م وتوسعت في افريقيا، ولم ينته القرن التاسع عشر الميلادي حتى كانت فرنسا قد احتلت معظم افريقيا الغربية والشمالية والوسطى وما تبقى احتلته مطلع القرن العشرين.
نعمت فرنسا باحتلالها لافريقيا بعد ذلك نصف قرن، حتى أتت الحرب العالمية الثانية وشاهد الافارقه والعالم احتلال النازيين لباريس عاصمة فرنسا والتي منها كان يدار أغلب بلدان القارة الأفريقية ومستعمراتها في جنوب شرق آسيا وأماكن أخرى في العالم، لتبدأ حركات التحرر في مقاومتها وتضطر أن تنحي رأسها للعاصفة فاستقلت معظم المستعمرات وبدأ العهد الثاني لفرنسا، انضمت للناتو واتفقت ضمنيا مع الولايات المتحدة الأمريكية أن تبقى لها اليد الطولى في مستعمراتها، فرعت انقلابات على زعماء عارضوا سطوتها كما فعلت مع الرئيس الموريتاني الأسبق: محمد خونه هيداله، وأحبطت أخرى على موالين لها كادريس ديبي الذي كادت عاصمته بلاده تسقط بيد معارضيه المدعومين من ليبيا عام 2008م، ولم تتورع عن التدخل المباشر إذا رأت تهديدا وشيكا لمصالحها في افريقيا، كما فعلت في ساحل العاج واسقطت “لوران غباغبو” ونصبت عوضا عنه “الحسن وترا” وحين تقدمت الجماعات الاسلاميه في شمال مالي نحو باماكو تدخلت بقواتها الجوية مطلع 2013م وسحقت تلك القوات المتقدمة، واستعانت بدول “الإيكواس” لتكمل المهمة على الأرض، وبعدها أنشات قوات برخان لمجابهة الجهاديين، كما أنها حرضت على الزعيم الليبي الراحل “معمر القذافي” وتدخلت بقواتها الجوية لسحق قواته المتقدمة نحو “بنغازي” بعد ساعات من صدور القرار الاممي الذي أتاح للناتو التدخل في ليبيا، وذلك بعد أن مد يديه لافريقيا لإخراجها من عباءة الاستعمار.
متغيرات كثيرة طرأت منذ بداية القرن الحادي والعشرين أهمها انتشار الوعي الثقافي بمخاطر الاستعمار وأياديه الخفية التي لازالت تصول وتجول في بلدان القارة جعل الشعوب تميل لكره المستعمر وسياسته الامبرياليه وتريد التخلص منه، وما الحكام إلا أفراد من تلك الشعوب تعرضوا لغسيل أدمغة وبعضهم أفواه شهوة الحكم والجاه لكن ذلك لا ينفي وجود حكام مخلصين لشعوبهم ويسعون التحرر بأي وسيلة.
اهتزت صورة الغرب في بلدان القارة الأفريقية بسبب نهبه المستمر لثروات القارة، وشوهدت هزيمة قواته في العراق وافغانستان وكيف تحدته دولا وانظمة ولم تسقط، وكيف كان اعتمادها على مقدراتها الذاتية سببا في تقدمها وازدهارها فمالت معظم الشعوب للتحرر، وحدثت ثورات في شمال افريقيا بيد أن مكر الغرب أفسدها وحرفها عن مسارها، وبدل ان تكون حافزا للحرية صارت حافزا للتبعية فلا أحد يريد الفوضى والخراب والكل يبحث عن التقدم والازدهار.
صعود قوى دولية كالصين الشعبية وروسيا الاتحادية وأخرى إسلامية كتركيا وإيران جعل الدول الافريقية تتقلب في ولاءاتها فأقامت الصين الشعبية قاعدة بغينبا واستدعت حكومة مالي الفاغنر الروسية ما أغضب فرنسا وظنت أنها بامكانها تدارك الأمور وإعادتها لمجرىها الطبيعي الذي تعودته منذ نصف قرن فبالغت في استفزاز الحكومة المالية لعلها تعيدها لبيت الطاعة فما كان من تلك الحكومة إلا أن منحت سفير فرنسا 72 ساعة لمغادرة أرضها ويبدأ عهد جديد، لن يقتصر الأمر على مالي فغينيا اعلنت تمردها مستعينة بالصين وبوركينافاسو في الطريق فكيف ستتعامل فرنسا مع العهد الجديد؟.
قد انتهى عهد استعمار الشعوب وولى عهد الوصاية عليها والتحكم في مصائرها عبر الوكلاء، والحل في انتهاج سياسة جديدة تشرك الشعوب في ثروات بلادها بحيث لا تبقى حكرا على الشركات الاجنبيه، أما الحكام فعليهم الاستفادة من خبراتهم المحلية وعقولهم المهاجرة والعمل على إعادتها للوطن بما يضمن لها العيش الكريم والاستفادة من خبراتها، فالكثير من هؤلاء اختاروا كرها العمل في المؤسسات الغربية لما تمنحهم من امتيازات ولو تحقق لهم ذلك في بلدانهم وتلقوا الضمانات فسيعودون إليها بدافع من الحب والايمان.
استبدال مستعمر بمستعمر لا يخدم الشعوب ولا القضايا العادلة وإنما يعبر عن حالة من الياس والقهر فالاستعمار يبقى استعمار مهما تغير شكله.
الفقر والتهميش واختلاف الرؤى والاجندة وصراع الفئات والقوميات يجعل هذه البلدان عرضة لتدخل أي طامع، ولازال بينها والاستقلال التام أشواطا وعقودا من التنمية ونشر الوعي الثقافي والقدرة على التعايش السلمي وإدارة الخلاف.
لن تقبل فرنسا بالعهد الجديد وستقاومه كما قاومت العهد الثاني، لكنها ستضطر لمجاراة الأحداث والتكيف مع الوقائع.
بدا العهد الاول لفرنسا مع نابليون بونابرت بعد الثورة بتسع سنين، والثاني مع شارل ديغول بعد الحرب العالمية الثانية، والثالث مع مانويل ماكرون بعد الثورات الملونة ووباء كوفيد.
تميز العهد الاول بالقوة الخشنة والإدارة المباشرة للمستعمرات، والعهد الثاني باستخدام الوكلاء والهيمنة الثقافية بحيث أضحت اللغة الفرنسية لغة رسمية لأغلب المستعمرات ولغة إدارية في بعضها، اما العهد الثالث فسيتميز باعتماد اللغة الوطنية الاكثر انتشارا لغة رسمية وسينظر لفرنسا كما ينظر للدولة العثمانية وغيرها من الدول والامبراطوريات التي مرت بالقارة، وسبحان الله مغير الاحوال، ولا يبقى إلا وجه الله.
عبد الله محمد الفلالي