عقد مركز الزيتونة ندوة علمية بحثت في الظروف الصعبة التي يعانيها لبنان والتي تهدّد استقراره السياسي والاجتماعي، وذلك صباح يوم الأربعاء 17 تشرين الثاني/ نوفمبر2021؛ بمشاركة نخبة من أكثر من ثلاثين من المتخصصين والخبراء والمهتمين بالشأن اللبناني.
واستهلت الندوة، التي أدارها أ. د. محسن محمد صالح المدير العام لمركز الزيتونة، بعرض الدكتور عماد الحوت لورقة السياسات التي أعدها بعنوان: “الأزمة اللبنانية: التوقعات والمسارات”، حيث استعرض المحددات الأساسية للمشهد اللبناني، كتركيبة البلد الطائفية الهجينة وبنيته الاقتصادية الهشة وواقعة السياسي المربَك.
كما استعرض الدكتور الحوت أهم المخاطر والسيناريوهات المحتملة التي تراوحت بين صدور قرار دولي عن مجلس الأمن لفرض وصاية دولية على لبنان، أو حصول عدوان عسكري إسرائيلي على لبنان يؤدي إلى نزع سلاح حزب الله. وتحدث عن سيناريوهات أخرى كتطور المفاوضات الأميركية – الإيرانية، ما قد يساعد في الوصول إلى تسويات سياسية في لبنان، أو تزايد الضغوط الأمريكية من خلال تشديد الحصار المالي لإضعاف الورقة اللبنانية التي يسعى المفاوض الإيراني لاستخدامها.
وقد رجّح الحوت سيناريو استمرار الوضع الراهن بما يعنيه من تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، مع بعض الإجراءات التخفيفية على مستوى الاختناقات المعيشية بما يمنع الانهيار الشامل، واستمرار الإدارة الأمريكية بالسعي لتغيير موازين القوى السياسية من خلال الانتخابات النيابية القادمة، وسعيها لتحشيد رأي عام رافض لسياسات حزب الله، والدفع لترسيم الحدود البحرية الجنوبية، بانتظار تطور مفاوضات الملف النووي والوصول إلى اتفاق حوله وحول الملفات الأخرى المتعلقة بالدور الإيراني في المنطقة، ومنها دور حزب الله في لبنان، ما قد يساعد في الوصول إلى تسويات سياسية في لبنان ودول أخرى في المنطقة.
كما طرح الدكتور الحوت في ورقته مسارات للحل على الصُّعد السياسية والاقتصادية والإصلاحية. فعلى المستوى السياسي، رأى أنه من الأنسب اعتماد خيار المسار الدستوري في التغيير من خلال انتخابات نيابية تسمح بإعادة تكوين السلطة، ومعرفة خيار اللبنانيين من خلال صناديق الاقتراع، وتكوين كتلة إصلاحية من خارج الاصطفافات الحزبية الداخلية أو الولاءات الخارجية، وانتخاب رئيس جمهورية من خارج المنظومة، يكون ملهماً للجماهير، ومساعداً على استعادة ثقتها بالدولة، وكلّ ذلك تحت ضغط ورقابة المواطنين.
أما على الصعيد الاقتصادي، فاقترح وضع خطة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية – المعيشية تقوم على مسارين متوازيين: مسار الصمود من خلال مجموعة من التحفيزات المالية والإجراءات الاقتصادية والنقدية والاجتماعية، ومسار التعافي الاقتصادي من خلال استعادة الأموال المنهوبة، وإعادة النظر في السياسات الاقتصادية بالانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، ووقف الهدر وتخفيف العجز في الميزانية العامة.
وعلى المستوى الإصلاحي، رأى أنه لا بدّ للحل أن يشمل سلسلة من الإجراءات الجذرية على مستوى استقلالية القضاء، وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئات الناظمة والرقابية، وتطبيق قانون حقّ الوصول للمعلومات، ورفع السريّة المصرفية عن اللبنانيين المقيمين، والتدقيق في حسابات الوزارات وحسابات المصرف المركزي، وإعادة صياغة دور المصارف لتتحول إلى ممول للاقتصاد الإنتاجي والابتعاد عن السياسات القائمة على الفوائد التي أرهقت المالية العامة.
وخلصت ورقة الدكتور الحوت إلى أن الحل الحقيقي يجب أن يأتي من الداخل عبر تنازل النخبة الحاكمة عن فكرة المحاصصة، التي تعيق تشكيل الحكومات من خبرات وكفاءات، تتمكن من العمل بشكل احترافي لإنقاذ لبنان، بعد أن أنهكه تضارب صلاحيات ومصالح الطوائف والرئاسات.
وأشار أن ذلك قد يبدو صعباً، ولكنه ليس مستحيلاً في ظلّ توافر رغبة شعبية مؤيدة لفكرة دولة المواطنة، التي لا مكان فيها للمحاصصات المبنية على الطائفية. ويقتضي ذلك على لبنان الذهاب إلى مسارات متعددة: مسار إعادة البناء السياسي والدستوري للدولة، ومسار الإصلاح الاقتصادي وتنفيذ برنامج إنقاذ حقيقي، ومسار تنفيذ إصلاحات جذرية باتجاه الحوكمة والحكم الرشيد، بالإضافة إلى مسار الحفاظ على الاستقرار الداخلي، ولكل مسار خطة عمل يجب أن تتوافق وتطلعات الشعب اللبناني الذي بات ينزف في انتظار الحل.
وختم الدكتور الحوت عرض ورقته بدعوة القوى اللبنانية المختلفة، ومن ضمنها مجموعات الحراك الشعبي، إلى اعتماد لغة الحوار المعمّق والمفتوح فيما بينها حول القضايا الجوهرية، مثل هوية لبنان ومصير اتفاق الطائف وإلغاء الطائفية السياسية وعلاقة لبنان مع محيطه، والاستراتيجية الدفاعية للبلاد، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية المستقبلية، واعتبر أن التوافق حول قواسم مشتركة هو السبيل لبناء بلد حقيقي، ولدى اللبنانيين كل مقوّمات النهوض المادية والمعنوية إذا ما اجتمعت إراداتهم وطاقاتهم، بعيداً عن التأثيرات والضغوط الخارجية أياً كان مصدرها.
وتميزت الندوة، التي عُقدت عن بُعد، بالنقاش الثري والعميق للورقة، على مدى ساعة ونصف من الوقت؛ حيث تمت الإشادة بمضمون الورقة، وجرى الحديث عن الإشكالية البنيوية والهوياتية التي يعانيها لبنان، وعن مدى إمكان التغيير من خلال المشاركة في الانتخابات النيابية. كما تم النقاش في احتمالية نشوء مسارات أخرى قد تفرضها الوقائع على الأرض كالمسار الثوري أو المسار العنيف في التغيير، ما قد يبعد المسار الإصلاحي المطروح. وتمت الدعوة لقيام حوار داخلي بين الفرقاء في لبنان بعيداً عن التجاذبات الإقليمية، واقتراح قيام ائتلاف بين القوى المؤمنة بدولة المواطنة والمؤسسات والسعي لتشكيل كتلة حرجة، تعمل لفرض المسار الإصلاحي.
واختتمت الندوة بردود الدكتور عماد الحوت وتوضيحاته على أسئلة ومداخلات السادة المشاركين، حيث أكد على تبنِّي الخيار الدستوري في التغيير، طالما أنه متاح، حيث أنه يسهم في تجنيب البلد خضات أمنية أو الدخول في حالة احتراب أهلي لا قدّر الله.