قبل عام من اختياره رئيسا للجمهورية في 25 يونيو 1956، طبقاً للاستفتاء الذي أجري في 23 يونيو 1956. كتب جمال عبد الناصر مقالا قصيرا في جريدة الأهرام، لا يتجاوز 600 كلمة، نشر في الأول من مايو عام 1955 وكان وقتها رئيسا للوزراء، وهذا ما يفسر لك توقيع المقال بـاسم الرئيس جمال عبدالناصر، وفى العادة عندما يكتب الرؤساء مقالات ينصرف الذهن إلى من كتب المقال للرئيس، أو من الذي أملى عليه المقال؟ أو من الذي عدل المقال وضبط صياغته حتى يخرج على هذه الصورة الحسنة الرائعة لغة ودقة تعبير؟
لكن الأمر مع الرئيس عبد الناصر يختلف؛ فقد كان التأليف أحد هواياته، لكن كل ذلك يقتضى كلاما آخر في موضع آخر، أما ما يهمنا الآن فهو لماذا كتب ناصر هذا المقال من الأساس؟ وإليك الإجابة:
في 26 أكتوبر 1954، حاول محمود عبد اللطيف (أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين) اغتيال عبد الناصر عندما كان يلقى خطاباً في الإسكندرية للاحتفال بالانسحاب العسكري البريطاني.
كان المسلح بعيدا عنه بـ 25 قدماً (7.6 متر)، وأطلق ثماني طلقات، ولكن جميع الطلقات لم تصب ناصر..
اندلعت حالة من الذعر بين الجمهور، لكن ناصر رفع صوته وطلب من الجماهير الهدوء، وصاح بما يلي: "فليبق كل في مكانه أيها الرجال، فليبق كل في مكانه أيها الرجال، حياتي فداء لكم، دمى فداء لكم، سأعيش من أجلكم، وأموت من أجل حريتكم وشرفكم، إذا كان يجب أن يموت جمال عبد الناصر، يجب أن يكون كل واحد منكم جمال عبد الناصر، جمال عبد الناصر منكم ومستعد للتضحية بحياته من أجل البلاد"..
تعالت صيحات التشجيع لعبد الناصر في مصر والوطن العربي. وأتت محاولة الاغتيال بنتائج عكسية.
وبعد عودته إلى القاهرة، أمر عبد الناصر بواحدة من أكبر الحملات السياسية في التاريخ الحديث لمصر؛ فتم اعتقال الآلاف من المعارضين، ومعظمهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين، وتمت إقالة 140 ضابطاً موالياً لنجيب وحكم على ثمانية من قادة الإخوان بالإعدام. تمت إزالة محمد نجيب من رئاسة الجمهورية، ووضع تحت الإقامة الجبرية، ولكن لم تتم محاكمته، ولم يقم أحد في الجيش بالدفاع عنه. وبعد تحييد منافسيه، أصبح عبد الناصر الزعيم في مصر بلا منازع.
هكذا بدا أن الرجل – ناصر يحتاج إلى ظهير قوى يعضد خطته ليصبح رئيسا، فكتب هذا المقال متوجها به إلى عموم المصريين المتدينين أولا، يخبرهم فيه عبر صحيفتهم الأولى، (وهو يعرف أهمية الأهرام وسوف يضعها ضمن أولوياته بعد ذلك، وسوف يفرد جناحيه عليها) يخبرهم أنه ليس ضد الإسلام، وإنما ضد من يتاجرون بالإسلام والذين حاولوا اغتياله، لتعطيل مسيرة الثورة أو اختطافها، ثم إنه يريد أن يكسب أيضا أنصار نجيب الذي عزله وحدد إقامته وهو المشهور عنه الطيبة والتدين، ثم يتوجه بالمقال ثالثا إلى العالمين العربي والإسلامي يقدم نفسه لهما بأن خلفيته الإسلامية قوية، وسنرى بعد ذلك أن العروبة جزء من مشروعه القومي، وأن العالم الإسلامي مجاله الحيوي سياسيا، وذلك حين يقول في مقاله، كما ستقرأ بعد قليل:
«ألم تكفنا هذه القرون السوالف التي صرنا فيها إلى حطام؟ ألم تنل منا العوادي لما كان بيننا من فرقه؟ ألم نستذل، وقد كنا سادة الدنيا وكرامها؟
أيها العرب، أيها المسلمون، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بأن تكونوا يدا على من عاداكم، مسالمين لمن سالمكم، ولا تفرقوا ولا تهنوا، فأنتم الأعلون وليست هذه العبارة ألفظها من الشفاه، أو يرددها اللسان، لكنها نابعة من قلبي المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام التي هي دعوة القوة والسلام، فهل تضعون أيديكم في يدي؟»
ورابعا؛ حتى إذا ما تبنى المذهب الاشتراكي بعد ذلك يكون قد قدم شرحا لنفسه، بأن هذا الأمر توجه اقتصادي وليس اعتقادا.
سبق المقال إذن أزمة مع جماعة الإخوان، ومع أنصار نجيب المتدينين، وسيتلوه ترشحه للرئاسة.
وهذا نص المقال:
دعوة إلى الإسلام
للرئيس جمال عبد الناصر
في أخريات القرن السادس الميلادي، وقبيل أن يغمر نور محمد الرسول صلوات الله عليه أرجاء البشرية، كان العالم في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب؛ يتعثر في خطا الرجعية، ويئن من وطـأة الجور والاستعباد، ويبعد كثيرا عن تعاليم المسيحية السمحاء، ويعكف معظمه على عبادة الوثن، ويعبد بعضه النار أو الكوكب السيار.
فشعوب بأسرها تستذلها قلة من الرجال، قد يلقبون بالأباطرة حينا، والقياصرة حينا آخر، وعوالم بمجموعها تضللها فئة أطلقت على نفسها رجال الدين، واتخذت من هذا اللقب ستارا تنوّم به هذه الجماهير حتى لا تفيق من سباتها، وتزيح العصائب عن أبصارها.
وحروب بعضها في أثر بعض تثار إشباعا لنهمة الغزو والفتح فحسب؛ حتى بات العالم على شفا الهاوية، وكادت تدور عليه الدائرة، ولكن رحمة الله التي وسعت كل شيء، قضت؛ ولا راد لقضائها؛ أن تهدي هذا العالم الضال، وترده إلى الهداية والاستقرار، فاختارت محمدا العربي اليتيم الفقير الناشئ في جوف الصحراء ليكون النبي الملهم، والرسول الموحى إليه، ليرد البشرية إلى الإسلام والطمأنينة وإلى التراحم والتعاون وإلى الإيمان واليقين.
وكانت رسالة من أشق الرسالات وأخطرها لهذا الجو العاصف الذي كان يجتاح العالم حينذاك، ولهذا التخلف المزري الذي اتسم به البشر آنذاك، لكن الخلق العظيم الذي تخلق به الرسول الكريم والصبر الجميل الذي تحلى به طوال حياته، والقوة الخارقة في الإعداد والتنظيم، وما كان يمتاز به من بلاغة ومنطق سديد، كل أولئك مكن لرسالته، وأصل لدعوته؛ فآمنت به هذه الملايين من البشر إيمانا زاخرا لا يخبو ولا يفتر.
ولقد استطاع الرسول الكريم أن يجعل دعوته مثالا لكل الدعوات، ومنارا لمن أتى بعده من المصلحين، فقد كان خاتم الأنبياء، وآخر الموحى إليهم من المرسلين، فجعل من حياته دستورا للحاكمين، ومن سيرته شاخصا يهتدي به الأحياء على مر الأجيال والأعوام.
لقد كانت حياته متناهية في البساطة، غاية في السمو والترفع، فعاش فقيرا ومات فقيرا، وكان في ذلك مضرب الأمثال، وكانت سيرته حافلة بألوان التضحيات، فضحى بنفسه مرات ومرات، ضحى بها عند إعلان دعوته، وإصراره عليها، وعدم الرجوع عنها على قلة الناصر والمعين، وضآلة المال والنشب، وضحى بها ليلة هجرته، وفى أيام هجرته، وضحى بها في الغزوات التي دافع فيها عن كيانه؛ بل كيان دعوته.
وكانت دعوته من أقوى الدعوات لأنها لم تجعل حجابا بين العبد وربه، ووساطة بين الإنسان ومعبوده، فالله أقرب إلى مخلوقه من حبل الوريد، فقضى بهذه الدعوة على كل وساطة وكهانة وادعاء.
وبساطة الدعوة كانت العامل الأول في هذا القرب العجيب: فكل إنسان يستطيع في يسر أن يفهم مرامي الدين، ويقوم بفرائضه في غير عنت أو إرهاق.
وأظهر ما في الدعوة الاتحاد والتعاون، فالمسلم أخو المسلم، والمؤمن للمؤمن أنيّ كان هذا المسلم أو المؤمن، فالفرقة ضعف، والخروج على الجماعة خذلان.
حقا إن في الدعوة الإسلامية دروسا وعبرا، فلم لا نتخذ منها واعظا ومرشدا؟ لم يشق بعضنا عصا الطاعة على بعض؟ ولم نفترق في سياستنا وأهدافنا ومثلنا؟ لم لا نهتدي بهدى الإسلام عند ما نضل الطريق أو تشتبه علينا الأعلام؟ لم يكن بعضنا حربا على بعض؟ ولم ننسق في سبيل غير سبيل الأخوة الصادقة والعصبية المتكاتفة والجماعة المتآزرة؟
ألم تكفنا هذه القرون السوالف التي صرنا فيها إلى حطام؟ ألم تنل منا العوادي لما كان بيننا من فرقه؟ ألم نستذل، وقد كنا سادة الدنيا وكرامها؟
أيها العرب، أيها المسلمون، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بأن تكونوا يدا على من عاداكم، مسالمين لمن سالمكم، ولا تفرقوا ولا تهنوا، فأنتم الأعلون.. وليست هذه العبارة ألفظها من الشفاه، أو يرددها اللسان، لكنها نابعة من قلبي المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام التي هي دعوة القوة والسلام، فهل تضعون أيديكم في يدي؟
وهل تلبون هذه الدعوة الحارة من قلب مؤمن بالعروبة والإسلام؟
وليس يكفيني أن بلغت، وأشهدت الله على أن بلغت، ولكنى سأسعى ما حييت بكل ما فيّ من جهد وعزم وإيمان لتصبح هذه الدعوة حقيقة لا ريب فيها والله على ما أقول شهيد.