اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثر لأقاربه، وقد ساند هذا الاتِّهام حملةٌ دعائيَّةٌ باطلةٌ قادها أعداء الإِسلام ضدَّه، وتسرَّبت في كتب التَّاريخ، وتعامل معها بعض المفكِّرين والمؤرِّخين على كونها حقائق، وهي باطلةٌ لم تثبت؛ لأنَّها مختلقةٌ، والّذي ثبت من إعطائه أقاربه أمورٌ تعدُّ من مناقبه، لا من المثالب فيه:
1ـ إنَّ عثمان رضي الله عنه كان ذا ثروةٍ عظيمةٍ، وكان وصولاً للرَّحم. (وضاح، الحضارة العربية الإسلامية، ص 114) يصلهم بصلاتٍ وفيرةٍ، فنقم عليه أولئك الأشرار، وقالوا إنَّه إنَّما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إنِّي أحبُّ أهل بيتي وأعطيهم، فأمَّا حبِّي لهم فإنَّه لم يمل معهم إلى جورٍ، بل أحمل الحقوق عليهم… وأمَّا إعطاؤهم فإنِّي إنَّما أعطيهم من مالي، ولا أستحلُّ أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحدٍ من النَّاس، وقد كنت أعطي العطيَّة الكبيرة الرَّعية من صلب مالي أزمان رسول الله (ص) وأبي بكرٍ وعمر، وأنا يومئذٍ شحيحٌ حريصٌ، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفني عمري وودَّعت الّذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟ (محمد، فصل الخطاب، ص 82)
وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أميَّة، وجعل ولده كبعض مَنْ يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم 10 آلاف فأخذوا 100 ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، فهذه النُّصوص وغيرها ممَّا اشتُهر عنه، وما صحَّ من الأحاديث في فضائله الجمَّة تدلُّ على أنَّ كلَّ ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال وإنفاق أكثره على نفسه وأقاربه وقصوره حكاياتٌ بدون زمامٍ ولا خطامٍ، ومع براءة عثمان ممَّا نُسب إليه، إلا أنَّ بعض العلماء ذهبوا إلى أنَّ سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام.
قال تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة إنَّ سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه لقرابة الإمام، كما قال الحسن وأبو ثور، وإنَّ النَّبيّ (ص) كان يعطي أقاربه بحكم الولاية، فذوي القربى في حياة النَّبيّ (ص) ذوي قرباه، وبعد موته هم ذوي قربى مَنْ يتولى الأمر بعده، وذلك لأنَّ نصر وليِّ الأمر والذَّبَّ عنه متعيِّن، وأقاربه ينصرونه ويذبُّون عنه ما لا يفعله غيرهم، وقال: وبالجملة فعامَّة مَنْ تولَّى الأمر بعد عمر كان يخصُّ بعض أقاربه إمَّا بالولاية أو بمالٍ. (محمد، فصل الخطاب، ص 83)
وقال إنَّ ما فعله عثمان في المال له 3 مآخذ، أحدها أنَّه عاملٌ عليه، والعامل يستحقُّ مع الغنى، والثَّاني أنَّ ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، والثَّالث أنَّ قرابة عثمان كانوا قبيلة كبيرةً كثيرةً ليسوا مثل قبيلة أبي بكرٍ وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكرٍ وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم … وهذا ممَّا نقل عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه الاحتجاج به. (ابن تيمية، منهاج السنة، 3/187 ، 188)
2ـ جاء في تاريخ الطَّبري أنَّ عثمان لمَّا أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزَّحف من مصر على تونس لفتحها قال له: إن فتح الله عليك بإفريقية فلك ممَّا أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلاً، فخرج بجيشه حتَّى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها، وسهلها وجبالها، وقسَّم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم، وأخذ خمس الخمس، وبعث بـ4 أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النَّضري، فشكا وفدٌ ممَّن كان معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله، فقال لهم عثمان إنَّما أمرت له بذلك، فإن سخطتم ؛ فهو ردٌّ. قالوا إنَّا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله أن يردَّه فردَّه. وقد ثبت في السُّنَّة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد.
3ـ وكان قد بقي من الأخماس والحيوان في فتح إفريقية ما يشقُّ حمله إلى المدينة، فاشتراه مروان بـ100 ألف درهمٍ، ونقد أكثرها، وبقيت منه بقيَّة، وسبق إلى عثمان مبشِّراً بالفتح، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفةً من أن يصيب المسلمين نكبةٌ من أمر إفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته، وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقاً بتعبه، وخطر بشارته، هذا هو الثَّابت في عطيَّة عثمان لمروان، وما ذكروه من إعطائه خمس إفريقية، فكذبٌ. (محمد، فصل الخطاب، ص 84).
لقد كان عثمان رضي الله عنه شديد الحبِّ لأقاربه، ولكن ذلك لم يمل به إلى غشيان محرَّم أو إساءة السِّيرة، والسِّياسة في أمور المال أو غيرها، وإنَّما دُسَّت في كتب التاريخ أكاذيبُ باطلةٌ، كان خلفها الدِّعاية السَّبئيَّة والشِّيعيَّة الإماميَّة الظَّالمة ضدَّ عثمان رضي الله عنه.
إنَّ سيرة عثمان رضي الله عنه في أقاربه تمثِّل جانباً من جوانب الإسلام الكريمة الرَّحيمة؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ *} [الشورى : 23 ]، وقوله جلَّ ثناؤه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *} [الإسراء : 26 ] .
كما أنَّها تمثِّل جانباً عمليّاً من سيرة المصطفى (ص) فقد رأى من رسول الله (ص) وعلم من حاله ما لم ير أو يعلم غيره من منتقديه، وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة النَّاس، وكان ممَّا رأى شدَّة حبِّ رسول الله (ص) لأقاربه وبرِّه بهم، وإحسانه إليهم، وقد أعطى عمَّه العبَّاس ما لم يعط أحداً عندما ورد عليه مال البحرين، وولَّى عليّاً وهو ابن عمِّه وصهره، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله (ص) أعظم القدوة.
يقول ابن كثير رحمه الله: وقد كان عثمان رضي الله عنه كريم الأخلاق ذا حياءٍ كثيرٍ، وكرمٍ غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفاً لقلوبهم من متاع الدُّنيا الفاني لعلَّه يرغِّبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النَّبيّ (ص) يعطي أقواماً، ويدع آخرين إلى ما جُعل في قلوبهم من الهدى والإيمان، وقد تعنَّت عليه بسبب هذه الخصلة أقوامٌ كما تعنَّت بعض الخوارج على رسول الله (ص) في الإيثار، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله (ص) يقسم غنيمة بالجعرانة؛ إذ قال له رجلٌ: اعدل، قال "شقيت إن لم أعدل".
ويحتجُّ عثمان رضي الله عنه لبرِّه أهل بيته، وقرابته مخاطباً مجلس الشُّورى بقوله: أنا أخبركم عنِّي وعمَّا ولِّيت، إنَّ صاحبيَّ اللَّذين كانا قبلي ظلما أنفسهما، ومن كان منهما سبيل احتساباً، وإنَّ رسول الله (ص) كان يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلةٍ وقلَّة معاشٍ، فبسطت يدي في شيءٍ من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأً، فردُّوه. (ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3/190)
وقد ردَّ ابن تيميَّة -رحمه الله- على من اتَّهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، فقال: وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتَّى إنَّه دفع إلى 4 نفر من قريش زوَّجهم بناته 400 ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار -مليون دينار- فالجواب يقال: أين النَّقل الثابت بهذا ؟
نعم كان يعطي أقاربه، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأمَّا هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقلٍ ثابتٍ، ثمَّ يقال ثانياً: هذا من الكذب البيِّن، فإنَّه لا عثمان، ولا غيره من الخلفاء الرَّاشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ.