قبل أشهر، ظهرت إلى العلن قضية عكست الإشكال الطبقيّ في المجتمع السوننكي في جنوب موريتانيا، وأثارت الجدل، وتعددت الآراء فيها حول ترسّبات العنصرية داخل المجتمعات الموريتانية "سمراء البشرة". أصل القضية صراع طبقي على الإمامة في زاوية بالي كابا في مدينة كيهيدي في ولاية كوركول، طرح الكثير من التساؤلات حول علاقة "الأسياد" السابقين، ورؤيتهم لمن كانوا يُعدّون "عبيداً" لهم، وحول استمرار ظاهرة العبودية في بعض أوساط السوننكي.
"عبيد" على الرغم من الحريّة
حين يدور نقاش العبودية ومخلَّفاتها في موريتانيا، تقفز إلى الذهن العنصرية داخل المجتمع الحسَّاني، والحسّانية هي اللَّهجة التي يتكلم بها أصحاب الهوية الثقافية العربية في موريتانيا، أو ما يعرف بـ"البيظان"، وهم خليط من أصول متعددة بعضها عربي، وبعضها أمازيغي، بالإضافة إلى أصول أخرى. ويكاد يقتصر تناول "بقايا العبوديَّة" على ما حدث ويحدُث داخل هذه الفئة من الشعب الموريتاني.
في السنوات الأخيرة، طفت على السطح أحاديث عن العبودية والطبقية في الجماعات الأخرى غير الناطقة بالحسّانية، فموريتانيا متعددة "المجتمعات"، و"القوميات"، ومن سكّانها البيظان، والبُولار (الفولاني)، والسُّوننكي، والوُلوف وهم قبائل سمراء البشرة تنتشر في بلدان عدة غرب إفريقيا، بالإضافة إلى "الحَرَّاطِين" وهم العبيد السابقين في مجتمع البيظان، وينظر جزء من مثقفي شريحة الحرّاطين إلى أنفسهم على أنهم "قوميّة" مستقلة عن البيظان.
تقول الرواية الرسمية عن الصراع حول "الإمامة"، والتي نقلتها منظمة "مشعل الحرية" عن لسان والي الولاية: "في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كان إمام زاوية بالي كابا الشيخ الكبير في السن قد ألمّ به مرض، فسافر إلى نواكشوط بغية العلاج. وأثناء غيابه، أَمَّ الصلاة في الزاوية طفل صغير من أبناء الأسياد. وذات يوم كان من ضمن المصلّين أحد المثقفين من أبناء ‘العبيد’ (السابقين) في مجتمع السوننكي، وقد رفض أن يُصلّي خلف الطفل الذي يفتقر إلى معرفة الدين، وحل محلّه، وأقام الصلاة، وصلّى بالجميع".
وعند انتهاء الصلاة قام بعض "الأسياد" بالاتصال بـ"زعيمهم الروحي" ليبلغوه بإمامة الرجل المنحدر من طبقة "العبيد" (السابقين)، فأفتاهم زعيمهم بإعادة صلاتهم، مؤكداً على أن "العبد" لا يُصلّي بهم على حد تعبيره، وأصدر أمراً بحرمان "العبيد" (السابقين) من دخول الزاوية عقاباً لهم على إمامتهم الصلاة بـ"الأسياد".
وأضافت المنظمة أنه حين "علمت السلطات الإدارية بالقضية، استدعت الطرفين، وهددت بإغلاق الزاوية إلى حين عودة الشيخ من رحلة علاجه. وحين عاد الشيخ مساء السبت، أبلغته السلطات أن إغلاق الزاوية أو المسجد في وجه الآخرين على أساس عرقي، مرفوض، ومجرَّم، وأن عليه التراجع عنه. قبل ذلك أبلغ الوالي وزير الداخلية بالقضية، وأظهر له خطورة الوضع، وضرورة التحرك قبل اشتعال نار الفتنة".
وعلى الرغم من أن الوزير أمر الوالي بإرسال ممثل عن كل طرف لحل الموضوع، فقد انتبه "العبيد" السابقون إلى إغلاق البوابة الأمامية للزاوية وقت الصلاة، وفوجئوا أن في داخلها مصلّين من الأسياد، وهو ما عدّوه حرماناً لهم، واقتحموا الزاوية، ووقع الشجار الذي خلَّف عدداً من الجرحى، أصيب اثنان منهم بجراح خطيرة.
عبودية راسخة
بدورها قدّمت الزاوية روايتها لما حصل، واتهمت المحتجين بالاستفزاز، وذلك في بيان أصدرته قالت فيه: "بينما كان الإمام على وشك أداء تكبيرة الإحرام، حاول شخص من الخلف (...) إبعاده بالقوة فجأةً. وعلى الرغم من الطابع الاستفزازي والمدان لهذا العمل، تمت تأدية الصلاة". وأكد البيان أنه "لمنع مثل هذه الأعمال غير المقبولة، والمحتمل أن تعكّر صفو السلام بين المؤمنين في المستقبل، استخدم رئيس التجمع سلطته الأخلاقية باستدعاء (الشخص المعني)، إذ تم تذكيره بأهمية الانضباط، وفي نهاية الاجتماع اعتُبِر أن الحادث انتهى".
وحسب الزاوية، قامت الجماعة المناوئة لمشيخيّتها بـ"إنشاء مجموعة على تطبيق واتساب، سرعان ما أصبحت منصة يتحدثون من خلالها بكراهية مصحوبة بتهديدات بالقتل"، و"علاوة على ذلك قال زعيم المجموعة إنه لم يعد يعترف برئيس التجمع، وأصدر إهانات بحقه".
بالنسبة إلى الباحث والناشط الحقوقي السوننكي بوبكر سيلا، الذي يكتب كثيراً عن العبودية والصراع الطبقي في مجتمعه، فإن هذا الوضع من رواسب العنصرية في المجتمع.
وتحدث لرصيف 22حول ما يحدث في مجتمعه قائلاً: "من المتفق عليه لدى المهتمين بقضايا العبودية والرّق في المجتمع السوننكي، أن هذا المجتمع كسائر المجتمعات عرف العبودية بمختلف صورها، وشتى أنواعها، وأبشع أشكالها. بقاياها وآثارُها ومخلفاتُها لا تزال قائمة بشكل جلي عند كل من رزق حاسة الشعور بالظلم والحيف".
وأضاف: "عرف هذا المجتمع أيضاً موجة كبيرة من تحرير العبيد وفق ما فرضته إدارة المستعمر في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، بمرسوم يقضي بتحرير العبيد السوننكيين، واحتكار الاستعباد لنفسها"، ما عدّه الأسياد في المجتمع السوننكي حينذاك قراراً جائراً ومبكراً ومستعجلاً يستهدف مصالح القوى الإقطاعية، مبرّرين ردّهم بعدم جاهزية مجتمع السوننكي لتقبّل هذا التحرير المفاجئ، وتهيئة العبيد أنفسهم لدفع ثمن الحرية الجديدة عليهم، وتكاليفها".
وأضاف: "تلك الحرية التي لم يستطع العبيد الاحتفال بها، دفعت بالأسياد إلى التحايل على هذا التحرير، فلجأوا إلى سن قوانين وتقاليد اجتماعية أشد وقعاً من العبودية نفسها، وعُرفت هذه التقاليد الاجتماعية الاستعبادية باسم "عقد عقود الالتزام الخدمي" (لادا لماقو)، وهو عبارة عن تقليد اجتماعي قائم على تقديم أسر العبيد المحرّرين خدمات لصالح قبائل الأسياد في المناسبات الاجتماعية، ويتجلى هذا العقد بالصور التالية: العتق مع بقاء تقديم الخدمة "للأسياد" عند الحاجة، والعتق مع بقاء القاموس النخاسي مثل العبد، ومسجد العبيد، وحي العبيد، ومقابر العبيد، وشيوخ العبيد... إلخ، والعتق مع بقاء وصاية الأسياد، والعتق مع بقاء الأحكام الشرعية المتعلقة بسلطة الأسياد على العبيد".
وأكد سيلا أن "حادث فتوى الشيخ السوننكي في كيهيدي بتحريم إمامة العبيد، ليس مستبعداً، بحكم انتمائي إلى مجتمع السوننكي، وبصفة خاصة إلى الأسر الإقطاعية والاستعبادية فيه، وتعايشي مع مجتمع السوننكي كباحث وناشط حقوقي، فذلك كله يجعلني أقف على حيثيات العبودية والطبقية وتفاصيلهما في هذا المجتمع. وبناءً على تعريف العبودية على أنها ممارسة حق الملكية على الشخص، وحق الملكية هو الانتفاع والاستغلال والتصرف، فإن العبودية كانت وما تزال واقعاً معاشاً في المجتمع السوننكي في كل من جمهورية مالي، وجمهورية السنغال، وغامبيا، وموريتانيا، ولا ينكرها إلا جاهل بالواقع الاجتماعي للسوننكي، أو من حُرِم حاسة الشعور بالظلم والحيف".
وأشار إلى أن "بيوت الأسياد لا تزال تزخر بالغلمان، إذ يخدمون بلا عقد، ولا أجر، وما زالت هناك مجالس لتأديب العبيد تنعقد لكل عبد يرفض وصاية الأسياد عليه، وقد يصل هذا التأديب إلى القتل، وقد حدث ذلك في جمهورية مالي في إقليم خاي. وفي مدينة سيلبابي الموريتانية صدرت أحكام بالسجن، هذه السنة، ضد من يستعبدون سوننكيين".
حراك ضد العنصرية
بدأت منذ سنوات قليلة، حالة من النقاش والحراك الخافت لرفض هذه الظاهرة في المجتمع السوننكي. ويقول أبو بكر سيلا عن ذلك: "إن تنامي الوعي في صفوف العبيد والعبيد السابقين، هو الذي حرّك المستنقع الآسن في مجتمع السوننكي، إذ ترتفع يوماً بعد يوم صرخات وأصوات ناقمة تتمثل في حركة المساواة السوننكية الناشطة في مجتمع السوننكي، والتي تضم أحفاد العبيد السابقين داعية إلى ضرورة وضع حد لبقايا العبودية، وتغيير النظام الاجتماعي والطبقي السوننكي المقيت، وإلغاء الفروق الاجتماعية بأنواعها كلها، ومخلفات العبودية، وتحطيم القبلية، وإلغاء وظيفة رئيس القبيلة، والإمامة الوراثية، وتقويض دعائم الإقطاعية اليمينية المتطرفة السوننكية. وفي المقابل ترتفع أصوات مدافعة عن واقع ترسّخ في قلوب الناس، وتتمثل في حركة الديمقراطية الإسلامية التي تضم أحفاد الإقطاعيين، والمستعبِدين السابقين الناشطة في المجتمع السوننكي، داعية إلى اختيار واعٍ لنمط من الديمقراطية الاجتماعية يتماشى مع الحقائق الاجتماعية والثقافية السوننكية، والوقوف أمام أولئك الذين يطمحون لا إلى شيء إلا الثأر، والانتقام من التاريخ، ولا همّ لهم سوى دفع المجتمع إلى التناحر والشقاق والفتن حسب تعبيرهم".
وبين الصفّين، يبدو رجال الدين صامتين، وبعيدين عن الأمر الواقع، على الرغم من سلطتهم الروحية في هذه المجتمعات، ما جعل النخب المثقفة في مجتمع السوننكي، وعلماء الدين، في مرمى نيران النقد، إذ يعتقد من يرفضون هذا الواقع أنهم لا يحركون ساكناً ضده. ويقول سيلا: "في ظل هذه الهزّة، وأمام هذا الزلزال الاجتماعي الخطير في أوساط السوننكي، والذي يُعدّ فرصة لتدخّل الأيادي الوسخة، وأصحاب الأفكار الهدامة، لتأجيج نار الفتنة في مجتمع كان حتى الأمس القريب رمزاً للتماسك، والاتحاد، والتعاون، لم نرَ أي دور يذكر لعلماء سوننكارا ومثقفيها ومفكريها، لحلحلة هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، إذ إن الأزمة تتصاعد يوماً بعد يوم، حتى بات سيناريو المواجهة، والاحتكاك، وشبح الحرب الأهلية، ظاهراً للعيان".
ورأى الباحث أن "علماء مجتمع السوننكي ومثقفيه، اختاروا موقف الحياد حيال الأزمة الاجتماعية السوننكية، والإمساك عما حصل بين العبيد والأسياد، فهم بذلك أصحاب القنطرة، والمنزلة بين المنزلتين: لا إلى هؤلاء، ولا إلى أولئك. ولا غرو، إنه المجتمع السوننكي الذي يلجم العالم والمثقف بلجام العادات والتقاليد الاجتماعية البائدة التي عفا عليها الزمن، فنسي علماء أوكارا ومثقفوها، أن لا حياد بين الحق والباطل، ولا بين الصلاح والفساد، ولا بين القوي والضعيف، لأن الحياد بين القوي والضعيف انتصار للقوي، لعدم تكافؤ القوى. لذا يجب الوقوف مع الضعيف، وأن نكون سنداً له حتى يأخذ حقه من القوي، فهذا هو الموقف الصحيح. أما السكوت عن أمراض المجتمع السوننكي، وعدم إيجاد حلول لها، فهو ما أنهك جسم المجتمع".
وخلص سيلا إلى القول: "أما تقييمي لدور الحكومة الموريتانية، فهو أن للدولة ترسانة قانونية لمكافحة العبودية، وتجريمها، وهناك محاكم مختصة بقضايا العبودية، وهذا شيء إيجابي، ولكن غالباً ما يفلت من يمارسون العبودية من العقاب، وذلك يرجع بحسب وجهة نظري المتواضعة إلى أن الدولة تنقصها إرادة صادقة لتطبيق القانون، ومواجهة الإقطاعية السوننكية".
رصيف 22