صراع دولي كبير في الساحل الأفريقي

29 يونيو, 2021 - 19:00

لا تبشر بخير الأخبار الواردة من ساحة المعارك في مالي، فالأمور في هذه الدولة الفاشلة، بل في عموم منطقة الساحل، تتجه كالسهم المنطلق نحو آفاق قاتمة، وذلك منذ أن أعلنت فرنسا عن الحدّ من وجودها العسكري في الساحل، ومنذ أن أمسك رجل روسيا الجديد، غويتا آسيمي، بالسلطة في باماكو، منذراً باندلاع صراع دولي في هذه المنطقة الممزقة.
فقد حدث هجومان مسلحان قويان يوم الجمعة الماضي في مالي، أحدهما ضد مركز بوني العسكري التابع للجيش المالي، وأسفر عن ستة قتلى وعن عشرات الجرحى، والثاني ضد مركز عسكري مؤقت تابع لبعثة الأمم المتحدة في الشمال وتمخض عنه 15 جريحاً بينهم 12 جندياً ألمانياً.
ويعيد أغلب المراقبين قتامة الوضع المنتظرة في مالي وبمنطقة الساحل للقرار الفرنسي بسحب متدرج لقوة “برخان” المرابطة منذ 2013 في مالي، فالتدخل الفرنسي لم يأت بحلول للأزمة المالية بل زاد طينها بلة، وعندما تعقدت الأمور جاء قرار الانسحاب التدريجي ليترك أوضاعاً متعفنة في ظل انقلابين عسكريين متقاربين.
ومع أن فرنسا عادت لتؤكد بأن قرارها لا يعني انسحاباً نهائياً بل هو انسحاب متدرج يجري تقييمه بصورة مستمرة، إلى جانب العمل لاستبدال الكتيبة الفرنسية بقوة أوروبية أوسع، ورغم الحاجة للقوة الفرنسية في صد الجهاديين الذين استأنفوا عملياتهم بعد مراجعة تسليحهم ومواقعهم، مستفيدين من الهدنة التي منحها لهم وباء كورونا، فإن هناك اتجاهاً واسعاً داخل مالي يرحب بالابتعاد الفرنسي ويرحب عوضاً عنه بتقارب مع روسيا.
وتمر دول الساحل بمرحلة تحول معقدة، ففي الركن الشرقي من الساحل شهدت جمهورية “تشاد” تطورات عاصفة مع مقتل “المارشال” إدريس ديبي، في خضم التصدي لهجومٍ كاسح للمتمردين في شمال البلاد، وفي الركن الغربي للساحل شهدت جمهورية مالي تصدعاً في قيادة المرحلة الانتقالية، قاد إلى انقلاب ثانٍ بعد انقلاب أول لم تمض عليه بعدُ سوى تسعة أشهر، وفي المنطقة الوسطى تشهد مناطق غرب النيجر وشمال شرق بوركينافاسو هجمات دموية للجماعات الإرهابية، تستهدف القرى الآمنة، مما أسفر عن نزوح العديد من السكان وشيوع الخوف في عموم تلك المناطق الآهلة بالسكان، ثم جاء التطور الأكثر إثارة وهو وقف فرنسا لعملية “برخان”، احتجاجاً على انقلاب مالي الأخير والدور الروسي الواضح في المشهد المالي.
وذكر الدكتور سيد أعمر شيخنا، مدير المركز الإقليمي للأبحاث والاستشارات في موريتانيا والخبير في شؤون الساحل، في تحليل نشره عن هذا الشأن، عدة سيناريوهات متوقعة للأوضاع في الساحل، محذراً من تأثيرات ذلك على أوضاع الساحل والصحراء.
ويعيد الدكتور شيخنا “جذور أزمات الساحل والصحراء إلى أسباب عديدة، أهمها تلك المتعلقة بـ “ضعف الدولة”، أي التعثر في بناء دولة قوية، ذات مؤسسات مستجيبة وفاعلة، ومجتمع وطني مندمج، واقتصاد متماسك يلبي الحدود الدنيا من الرفاه”.
وترجع الأسباب المؤسِّسة لظاهرة “ضعف الدولة” في عموم دول إفريقيا جنوب الصحراء، حسب الخبير، إلى الطريقة التي غَرست بها الإدارة الاستعمارية الفرنسية الكيانات “الدولاتية” في التربة المحلية، فظهرت الدولة كنبتة خارجية موروثة عن الاستعمار.
ويرى الخبير “أن أوضاع الساحل ترتبط عموماً بالسيناريوهات التي تنتظرها جمهورية مالي الموجودة منذ عام 2013 أمام ثلاثة تحديات خطيرة ضاغطة، تتمثل في فساد وتآكل النظام القائم بقيادة آمادو توماني توري، وتصاعد الحراك الثوري للحركات الأزوادية المطالبة بالانفصال، وتعاظم دور الحركات الجهادية ذات الأجندة الملتبسة”.
وكانت ثالثة الأثافي ظهور التنافس الدولي الحاد بين قوى الشرق روسيا والصين الباحثة عن موطئ قدم في المنطقة، وفرنسا ذات النفوذ التقليدي الموروث عن الحقبة الاستعمارية.
ويرى الدكتور شيخنا “أن جمهورية مالي ومن ورائها الساحل، تواجه ثلاثة سيناريوهات، أولها سيناريو الانفجار الداخلي المستند لجملة معطيات تاريخية وسياسية، بينها مشكلة سكان الشمال المالي (أزواد) التي أضيفت لها مشكلة سكان الوسط (فلان ماسينا) الذين أعلنوا تململهم واحتجاجهم على التهميش في الدولة المالية، مما يعني أن الدولة المالية بحاجة إلى إصلاحات عميقة ومراجعات مؤلمة تجنب مالي خطر التفتيت والاحتراب الأهلي”.
وسبق للاتحاد الإفريقي أن دعا أثناء القمة الإفريقية التي عقدت في كانون الثاني/يناير 2013، الحكومة المالية والفرقاء الآخرين لدفع العملية السياسية نحو إيجاد حلول طويلة الأمد للأزمة المالية، مع التأكيد على الطابع السياسي للأزمة، وحاجتها لحل سياسي طويل الأمد وليس لتدخل عسكري أجنبي.
أما الاحتمال الثاني فهو سيناريو الصراع الدولي على مالي، حيث ظل الانفراد الفرنسي بإدارة ملف محاربة الإرهاب في الساحل الصحراوي، الذي يخفي وراءه أجندة إستراتيجية كبرى، موضع استياء قوى دولية عديدة.
ومن جهة أخرى، يندرج هذا الوجود العسكري الغربي في مالي ضمن سياق مواجهة التمدد الصيني والروسي في أفريقيا. وبالفعل كشفت الأيام عن حدة الصراع الدولي على المنطقة، حيث استفادت القوى الشرقية الأوراسية من تململ سكان الإقليم من النفوذ الفرنسي، وهو ما فتح الباب أمام التحالف الحالي بين النخب الحاكمة في مالي مع روسيا والصين على حساب فرنسا ذات النفوذ التقليدي.
لكن الأخطر حالياً يبقى اشتعال حروب الوكالة بين القوى الدولية المندفعة نحو المنطقة وتلك المدافعة عن نفوذها الاستراتيجي الوجودي.
وتحدث الدكتور شيخنا عن سيناريو ثالث هو سيناريو مالي الديمقراطية المتصالحة، معتبراً أنه الاتجاه العقلاني المتماشي مع المنطق والمصلحة العليا لدولة مالي ومنطقة الساحل بشكل عام، كما أنه يخدم السلم والاستقرار الدوليين، إذا هو أفضى لبناء مالي جديدة تسودها الديمقراطية وحكم المؤسسات، مالي متصالحة مع شعبها، وبذلك تقطع مالي مع هشاشة المؤسسات السياسية، والنزعات الانفصالية، وعدم الاستقرار السياسي.
ويضيف الدكتور شيخنا: “الحل يبدأ ببناء مؤسسات ديمقراطية في مالي تعيد الثقة الشعبية في النظام، وتوقف الانهيار المريع لمؤسسات الدولة، ثم التوجه إلى التفكير في حلول إبداعية تضمن لجمهورية مالي وحدتها الترابية واستقرارها، وتحقق للأزواديين طموحاتهم وآمالهم في التنمية والعيش الكريم، في دولة فيدرالية أو من خلال حكم ذاتي موسع في دولة موحدة”.
وخلص المحلل السياسي إلى القول: “إذا ما اقتنعت النخب المالية، لا سيما في الجنوب، بهذا الحل السياسي العقلاني، وقام المجتمع الدولي بتقديم دعم مالي وتنموي كبير لمالي الديمقراطية الموحدة، فسيكون هذا الأمر فاتحة لعهد جديد من السلام والاستقرار، يمكن أن يمثل نموذجاً يحتذى به لحل نزاعات مستعصية أخرى في شبه المنطقة”.