إقدام سلطات بيلاروسيا على تحويل مسار طائرة ركاب مدنية قادمة من أثينا ومتوجهة إلى فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، وإجبارها على الهبوط في مينسك عاصمة بيلاروسيا بغرض اعتقال الصحافي البيلاروسي المعارض رومان بروتاسيفيتش الذي كان ضمن المسافرين، وامرأة روسية كانت ترافقه، تعد سابقة واضحة في المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أنظمة دكتاتورية واستبدادية حتى في قلب أوروبا.
ورغم مزاعم سلطات بيلاروسيا أن طاقم طائرة «راين اير» قرر من تلقاء نفسه الهبوط في مينسك «بدون تدخل» بعدما تم إبلاغه بإنذار من حركة حماس الفلسطينية بوجود قنبلة؛ من المنطقي أن يكون الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو هو الآمر الأول بتنفيذ العملية، بل توفرت معلومات تقول إنه مهندس الاختطاف، وصاحب الأمر إلى طائرة حربية من طراز ميغ ـ 29 باعتراض طائرة الركاب ومرافقتها حتى هبوطها الإجباري في مطار مينسك.
وليس خافياً أن لوكاشينكو يحمل، عن جدارة، لقب آخر دكتاتوريي القارة الأوروبية، وهو يحكم بيلاروسيا منذ 27 سنة، وفي آب /أغسطس الماضي جرى إعلان فوزه بولاية رابعة بنسبة 80٪ مقابل 10٪ لمرشحة المعارضة التي اضطرت إلى اختيار المنفى ومغادرة البلاد.
ولكن كان من المحال أن يقدم لوكاشينكو على هذه العملية التي تشكل إرهاب دولة صريحاً وصارخاً، بل كان من غير الممكن لنظامه الاستبدادي أن يواصل البقاء أصلاً، لولا مساندة أولى ومباشرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم تقتصر على ضخ القروض وتمويل القمع وإدارة الأجهزة الأمنية، بل بلغت درجة إرسال قوات عسكرية وأمنية تشارك النظام في قمع الحراك الشعبي الذي أعقب انتخابات رئاسية مزورة بوضوح. كذلك كانت إجراءات لوكاشينكو في تزوير الانتخابات وإسكات المعارضة قد تمتعت بصمت فاضح من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إما على سبيل مراعاة بوتين أو لأن ترامب كان يتنبأ بأنه قد يضطر إلى افتعال أزمة حول إعادة انتخابه هو شخصياً.
ومن إرهاب المواطنين على الأرض إلى ملاحقتهم عبر قرصنة السماء يواصل لوكاشينكو ألعاب التحدي والاستهتار والاستهزاء في عقر دار أوروبا وعلى مرأى ومسمع حكوماتها وقادتها وأحزابها. وعقد المجلس الأوروبي يوم أمس اجتماعاً مقرراً مسبقاً على مستوى رؤساء الدول والحكومات، وبالتالي توجب أن تتصدر قرصنة الدولة التي مارستها سلطات بيلاروسيا جدول الأعمال، لسبب جوهري أول هو أن عملية لوكاشينكو استهدفت اثنتين من عواصم الاتحاد الأوروبي، هما أثينا التي انطلقت منها الطائرة وفيلنيوس التي كانت محطتها الأخيرة. سبب ثان هو أن إجبار الطائرة على تحويل مسارها بضغط مباشر من طائرة مقاتلة كان يهدد سلامة 170 من ركابها، الأوروبيين غالباً ولكن الذين تتنوع جنسياتهم أيضاً.
هذا إلى جانب أن العملية تشكل انتهاكاً فظاً لميثاق شيكاغو 1944 الذي ينظم مبادئ الطيران المدني، وبالتالي فإن منظمات مثل اتحاد النقل الجوي (إياتا) والمنظمة الدولية للطيران المدني التابعة للأمم المتحدة مطالبة باتخاذ إجراءات رادعة وفعالة تضمن عدم عربدة أنظمة الفساد والاستبداد في أجواء السفر المدنية، بافتراض أن الدول قد تتقاعس أو تتردد لاعتبارات تخص المصالح المختلفة.
وكل هذا لا يلغي حقيقة أن بعض الغاضبين من سلوك لوكاشينكو اليوم كانوا، قبل أيام قليلة، في عداد الساكتين عن جرائم الحرب وإرهاب الدولة التي مارستها دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة طوال 11 يوماً متتابعة.
القدس العربي