تجاوزنَ عتبة الحريم وحكمن المغرب...

22 مايو, 2021 - 12:16

زينب النَّفْزَاوِيَّة، السيّدة الحُرّة، وخْنَاتَة بنت بَكَّار، ثلاثُ نساءٍ اقتحمن قلعة السلطة السياسية التي يهيمنُ عليها الرجال، وتولّيْنَ مقاليد الحكمِ في زمن كانت تعتبر فيه النساء مجرّد متاع مكانه الأفضل جناح حريم الأمير الذي لا يتجاوزن عتبته. قليلة هي الكتابات التي أنصفت تاريخهنّ السياسي في الزعامة والقيادة والحكم، لكنها إنتاجات نفضت غبار النسيان عن أشهر حاكمات المغرب.

تشرَّبن الذكاء والعلم والطموح والقدرة على ضبط التحالفات السياسية وتجنب الإحباط والخوف. لَفَتن ذاكرة المغرب في زمنهنّ، لدرجة اقتران اسم كل واحدة منهن بأسطورة "المرأة الخارقة" لدى البعض و"السّاحرة" لدى آخرين. كنّ على علم كبير، باستثناء زينب النَفزاويّة التي لا يذكر التاريخ مسارها التعليمي، خلافا للسيدة  الحرة وخناتة بنت بكار اللَّتين  درستا العلوم الشرعية والآداب وغيرها.

لبيبات أم ساحرات؟

بالنسبة إليهن كانت السلطة السياسية لا تمارس بالعواطف أو التردّد أو الضعف كما يخال العامّة النساء. بل تُمارسُ بالقوة، وهذه هي النقطة المشتركة بينهن: قوة الطبع والشخصية. الميزة التي جعلت زينب النفزاوية امرأة أثارت رغبة الكثيرين في الزواج بها، ليس بسبب جمالها الآسر وحُسن خِلقتها، فقط ولكن بسبب حزمها وحكمتها السياسية ونباهتها فالمؤلف المجهول لكتاب التاريخ "الاستبصار في غرائب الأمصار" يصفها بأنه "لم يكن في زمانها من أجمل منها ولا أعقل ولا أظرف"، وهذه العقلانية تجلت أكثر من مرة كما تحكي عنها الكاتبة والصحفية الفرنكوفونية زكيّة داوود في روايتها التاريخية "زينب النفزاوية" التي تستعيد شتات الكتابات التاريخية لتعيد للمرأة أسطورتها ومجدها المنسي.

لم يرد في المراجع التي نبشت في مسار النفزاوية السياسي تاريخ ولادتها ولكنها عاشت خلال القرن 11م، ويرجّح البعض أنها توفيت عام 1072م. بعد وفاة زوجها الثّاني، أهْدَت كل ما تملكه من مال لزوجها الثالث أبو بكر بن عمر اللّمتوني ليس تضحية من أجل زوجها، ولكن انعكاسا لتشبثها بدعم كل أمير تزوجته، ترضاه لهمته وتسانده لذلك. والدليل هو أنها ساندت بعدها زوجها يوسف بن تاشفين الذي يعتبر المؤسس الفعلي لإمبراطورية المرابطين، وكان مؤسس مدينة مراكش، عاصمة المغرب لقرون.

"كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة"، هي أشهر أوصاف زينب بنت إسحاق النفزاوية على لسان ابن خلدون، تزوجت بن تاشفين الأمير المرابطي واستقرت معه مؤقتا في أغمات، وهي بلدة مغربية تقع قرب مدينة مراكش وسط المغرب، وكانت معبر القافلات التجارية التي تذهب إلى بلاد جنوب الصحراء الكبرى المعروفة حينها ببلاد السودان.

كان لها الدور الكبير في إرشاد ونصح زوجها بعد أن طلّقها ابن عمه أبو بكر ابن عمر، أمير جماعة المرابطين، بسبب قراره الجهاد في بلاد السودان، ثلاثة أشهر بعد زواجه بها.

"كانت عنوان سعده، والقائمة بمُلكه، والمدَبِّرة لأمره، والفاتحة عليه بحُسن سياستها لأكثر بلاد المغرب"، يورد المؤرخُ المغربي أحمد بن خالد الناصري في مؤلفِه الشهير "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، في حديثه عن دعم بنت إسحاق الملقبة بـ"تَانفْزَاوْت" زوجها بن تاشفين لاستكمال بناء مدينة مراكش، ودافعت عنه ليكون المؤسس الفعلي والشرعي لإمارة المرابطين التي حكمت الأندلس والمغرب الأقصى إلى حدود نهر السنغال، فأصبحت أحد أبرز الممالك في التاريخ.

لا يختلف الأمر كثيرا عمّن وصفت بأميرة الجهاد البحري وهي السيدة الحرة، التي حكمت المنطقة البحرية أقصى شمال المغرب في القرن الخامس عشر ميلادي. يرجح المؤرخون أنها ولدت بين سنة 1493م . حكمت مدينة تطوان (شمال المغرب) مع زوجها علي المنظري طيلة ثلاثين سنة، بين عامي 1540 و1542م، وبقيت في سدّة الحكم سنوات بعد وفاته، خلال أحرج حقبة من تاريخ المسلمين بعد سقوط الأندلس، ولتقوية سلطتها ونفوذها تزوجها السلطان الوَطَّاسي أحمد.

اسمها المثير للجدلِ والتساؤلِ، اعتبَرهُ المؤرخ المغربي محمد داود مجرد لقب وليس اسمها الحقيقي، إذ أورد في مؤلفهِ الشهير "مختصر تاريخ تطوان" أنها لُقبت بالحرة تمييزاً لها، لأن الناس في ذلك العصر كانوا يكثرون من التسرّي بالجواري، مُرجحا أن يكون اسمها عائشة.

ولدت في غرناطة الأندلسية وبعدما اشتدَّ احتلال البرتغاليين لثغور شمال المغرب، رحلت إلى تطوان مُكرهة ومتشبثة بحلم العودة إلى الأندلس، وظلت الناطقة الرسمية والشريكة الديبلوماسية مع البرتغاليين والإسبانيين والأتراك، وحاكمة الأندلسيين الذين يشنون غارات على سفن أوروبية ووصفوا بـ"القراصنة" في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

يُترجم شعار السيّدة الحرة شخصيتها الحازمة العنيدة والمتشبثة برأيها، ورؤيتها الثاقبة لأمور السياسة. يتضمن ميدالية دائرية يتوسطها كتاب مفتوح، يتضحُ أنه قرآن مع جملة "الله أكبر" مكتوبة في الأسفل، مع سيفين على اليمين واليسار وصورة للمسبحة. عناصر تشير إلى واجب السيّدة الحرة تجاه المجتمع، وقوتها في مواجهة الجار العدو، ومنها تستمد سلطتها، بحسب تحليل الباحثة المغربية فاطمة الزهراء طموح.

تلقت السيدة الحرة تكوينا من أسرة شريفة من سلالة الأدارسة، تعلمت على يد الكثير من الشيوخ، أبرزهم الشيخ أبو عبد الله الغزواني، تلقت ثقافة مزدوجة، مكنتها من ضبط الحكم وفهم عقليات وذهنيات الأوروبيين خاصة البرتغاليون والإسبان.

 عاشت آخر أيامها في مدينة شفشاون، بعدما تم استبعادها من طرف حفيد زوجها الأول من حكم مدينة تطوان، ثم أنشأت زاوية اشتهرت فيما بعد بفضل علمها، باعتبارها عالمة كبيرة وولية صالحة حقيقية، حسب ما توارثت الأجيال والمؤرخون حكايتها.

أما خناتة بنت بكّار فهي من أشهر نساء سلاسة العلويين الحاكمة اليوم في المغرب. ولربما كان لها دور في الحفاظ على الدولة في عز انقسامها عقب وفاة زوجها المولى إسماعيل. وهي أم عبد اللّه بن إسماعيل، وجدّة السلطان محمد بن عبد الله الذي استطاع ترسيخ الحكم وتقوية الدولة وجعلها مرّة أخرى في خانة القوى المنافسة للغرب.

لا تذكر الكتب تاريخ ولادة خناتة بنت بكار ، لكنها توفيت سنت 1730، وكانت فقيهة وأديبة، وعالمة متصوفة تقلدت زمام الحكم في حقبة "المغرب المتمزق" بعد وفاة زوجها السلطان المولى إسماعيل.

تمسكت بكل كفاءتها وحنكتها السياسية لتسيير المغرب خلال لحظته الحرجة تلك التي انتفض فيها خُدّام القصر والأعيان، وناضلت للحفاظ على عرش ابنها عبد الله، بعدما تعرضت لمختلف أشكال المضايقات والطرد والإقصاء من الحكم وتمرّد جيش "عبيد البخاري"، لكن التحالف السياسي والاجتماعي مع قبائل "الودايا"، إلى جانب ثرائها، مكناها من حماية عرش ابنها خلال ربع قرن من الزمن.

ربما شظف الصحراء ما نحَتَ هذه الشخصية القوية والطموحة. فالبدايات الأولى كانت في أعماق الصحراء (موريتانيا حالياً) على يد أبيها بكار المغافري. ولمعرفتها الواسعة ودرايتها تقلدت منصب مستشارة زوجها المولى إسماعيل، كان كل المثقفين في عصرها يُجمعون على علمها الواسع وورَعها الشديد. أحد المؤرخين وصفها بـ "أم السلاطين المحبوبة من طرف الجميع".

يحكي عنها المؤرخ المغربي إبراهيم بوطالب، على لسان أحد المؤرخين للمرحلة "لم نعرف قط امرأة تشبه لالة خناتة من بين كل النساء الحرائر اللواتي دخلن القصر زوجات للسلطان المولى إسماعيل. تتصف بالنبل والحياء والتواضع، وقوة الطبع والشخصية وصدق الإيمان".

تعددت الأزمات والعزم نسائيّ

أسباب وصول النساء الثلاثة إلى سدة الحكم متعدّدة، لكن "الأزمة" هي النقطة المشتركة بينهن. فَحُكمهن تزامن مع ثلاث أزمات: أزمة النشأة، أزمة الانهيار، وأزمة الاستمرارية، حسب تحليل الباحثة فاطمة الزهراء طموح.

فظهورُ الملكة زينب النفزاوية الأمازيغية تصادَف مع ما عرفته بدايات نشأة دولة المرابطين من أزمة. فاعليتها كقائدة سياسية لعبت دورا مهما من أجل تقوية حكم المرابطين، إلى جانب مكانتها الاجتماعية باعتبارها ابنة تاجر كبير من تجار منطقة أغمات، المركز التجاري الذي يربط الجسور بين الأندلس وإفريقيا جنوب الصحراء.

بالنسبة للسيدة الحرة قائدة الجهاد البحري شمال المغرب، فقد ارتبط حُكمها بأزمة سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس، وتزايُد ضعف السلالات المغربية الحاكمة من المَرِينِيِّينَ والوَطَّاسِيِينَ، الذين لم يتمكنوا من الدفاع على المجال الترابي للمغرب، حينها بدأت حملات توسيع الممالك المسيحية البرتغالية والإسبانية خاصة على سواحل المتوسطي والمحيط الأطلسي.

أما مرحلة الأزمة فتم فيها تحويل الطرق البحرية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي، تحولٌ مفصلي في حياة العالم الإسلامي، لجأ خلاله الناجون المسلمون من الأندلس إلى مدينة تطوان شمال المغرب، وحواضر أخرى في المغرب والجزائر وتونس.

وعرفت حقبة حكم الملكة خناتة بنت بكار، أزمة الاستمرارية التي أعقبت وفاة زوجها السلطان المولى إسماعيل سنة 1727، وهو الذي تسلّح بإنشاء جيش "الودايا" وجيش "عبيد البُخَارِي"، لكن بعد وفاته، عرف المغرب أزمة استمرارية بلغت ثلاثين سنة، تقلدت خلالها "الملكة" خناتة زمام الأمور.

نقطة أخرى مشتركة بينهن هي ألاّ واحدة منهن كانت جارية، على عكس السائد في علاقة النساء بالخليفة في مختلف دول الشرق الإسلامي، فلم يكُنَّ لا إماءً ولم يكن أصلهنّ من قبيلة أو مجتمع أو مرتبة اجتماعية هشة، بل كُن "أرستقراطيات" قبل أن يصرن ملكات.

فزينب النفزاوية، هي ابنة تاجر أرستقراطي من قبيلة نفزاوة (تونس حاليا)، أما أمّها وأزواجها الأربعة فهم من قبائل مصمودة وصنهاجة وأغمات العريقة التي كانت من أقوى القبائل الأمازيغية، لذلك كان زواجها من رجال كبار من أهل العلم والدين والسلطة أمرا طبيعيا.

أمّا السيدة الحرة، فهي ذات الأصل المزدوج، الأندلسي من جهة الأمّ والشريف (المنحدر من سلالة النبي محمد) من جهة الأب مولاي علي بن موسى بن رشيد مؤسس مدينة شفشاون، وقائد الجهاد الإسلامي بين سنتين 1471 و1512. هويتها المتعددة ساعدتها على ضبط زمام الحكم وفهم ما يقع خارج الحدود خلال ثلاثين سنة مارست من ضمنها 17 سنة الحكم بشكل مباشر.

ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الملكة خناتة بنت بكار المُنتمية إلى قبيلة المغافري حيث نشأ والدها الشيخ المغافري، والتي تنتمي إلى قبيلة عرب المعقل، الذين استقروا في الصحراء، والتي دعمت تأسيس جيش "الودايا" الذي عزز حكم المولى إسماعيل.

وقد أشادَ أحد الإنجليز وهو "جون ويندهاس" بتميّز الملكة خناتة بعد رجوعها من عرب المعقل بقبائل المغافرة بالساقية الحمراء في موكب سلطاني يتكون من عشرين ألف رجل.

ثريات قويّات بالتحالفات

في العادة تحتكر السلطة السياسية من خلال الثروات مالية، وهو ما ساعد النسوة الثلاث، فمنهن الفاحشة الثراء ومنهن من كانت المدبرة الحكيمة لأموال زوجها. تذكرُ كتب التاريخ أن زينب النفزاوية كانت تملك ثروة مالية كبيرة جمعتها من إمارة أغمات وقبائل مَصْمُودَة، وهو ما مكنها من تقديم المال والذهب والفضة وجواهر اللؤلؤ لزوجها أبو بكر بن عمر، الذي تفاجأ بما أهدته له. بالنسبة إلى السيدة الحرة، باعتبارها قائدة الجهاد البحري والمشرفة على عمليات "القرصنة" بالأندلس، تمكنت من جمع الكثير من الأموال والأرباح.

أما الملكة خناتة فيقدمها المؤرخون على أساس أنها امرأة ثرية تمارس التجارة، وبعد وفاة زوجها زاد غناها، إذ أنفقت أموالا كثيرة لدعم ومساندة ابنها مولاي عبد الله خلال توليه السلطة، وحافظت على ثروته.

كما تعددت أحلاف الملكات بين التحالفات العائلية والقبلية إلى التحالفات مع قوات أجنبية والأعيان والنخب من أبناء المدن الكبرى. وقد مكنتهن هذه التحالفات من تقوية سلطة الحكم. بالنسبة لزينب النفزاوية المرابطية، لم تكن تمارس الحكم بشكل مباشر وبالتالي لم تكن تذكر كتب التاريخ مختلف تحالفاتها السياسية، على عكس السيدة الحرة وخناتة بنت بكار.

لكن البحث عن التحالفات التي شكلها القائد يوسف بن تاشفين زوج النفزاوية، يشير إلى أن هذه الأخيرة امرأة استثنائية، تقف خلف تدبير تحالفات زوجها، لأنها رمز اندماج قبائل صنهاجة مع قبائل مصمودة الأمازيغيتين مع نخبة التجار وهو ما شكل القوة الاقتصادية لمنطقة أغمات.

وضعُ السيدة الحرة كان مختلفا، فهي ملكة مارست الحكم بشكل مباشر. لا تكلّ من البحث عن دعم سياسي وتحالفات قوية. فزواجها من السلطان أحمد الوطاسي سنة 1541م كان من أجل تحقيق التّحالف السياسي، لذلك اشترطت عليه الانتقال للعيش في تطوان، في رفض تام لمنطق الحريم الذي يُفرض على زوجات الأمراء والملوك حينها من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا يُسقط حكمها لتطوان من طرف من يريد أن يتمرد عليها (بتحالف مع البرتغال).

وبالنسبة لخناتة بنت بكار، كان الوضع صعبا بشكل كبير، ومع ذلك كانت تبحث عن تحالفات قوية مع اعتمادها على جيش الودايا المنحدر من نفس المنطقة القبلية التي تنتمي إليها.

واستطاعت الملكة فيما بعد ضمان ثقة ودعم أهل القلم والعلماء والمثقفين، بعد استقرارها إلى جانبهم في فاس، وبفضل علمها وتربيتها وثقافتها الواسعة تمكنت من كسب تحالف المثقفين والجنود من قبائل أخرى.

هذه قصص أشهر نساء مغربيات ساهمن في تغيير الخريطة السياسية لمحطات مهمة من تاريخ المغرب في الحقبة الإسلامية وهناك أخريات قبل دخول الإسلام إلى بلاد المغرب، أمسَكْن مفاتيح السلطة السياسية والعسكرية، في وقت كانت تؤثث فيه النساء حريم الملوك والأمراء داخل القصور. لكن بذكائهن وبراعتهن في المفاوضات والمشاورة وحتى المناورة، ومستواهن العلمي والثقافي، استطعن كبحَ هيمنة الرجال على سدة الحكم، وأصبحن ملكات زمانهن.

رصيف 22