بينما كانت جماهير حي دار النعيم الشعبي قد بدأت تتوافد على ساحة الملعب الرياضي في الحي من أجل حضور أمسية للمديح الشعبي الذي يعتبر من تراث شريحة "لحراطين" وأصبح الجميع يتذوقه في موريتانيا، كان الشاب الثلاثيني علي الشيخ يستعد في الكواليس لتقديم دوره في المديح على المنصة.
علي الشيخ لديه عمله الخاص، لكنه يهوى "المديح الشعبي" رغم أنه لا يوجد من بين أفراد أسرته من سبق له ممارسة هذا الفن.
صعد المداح الشاب على المسرح، وبدأ يؤدي دوره المديحي "النبي لعدو ليانها" (أي النبي يليّن العدو)، وألهب حماس الجمهور الحاضر بمختلف أعماره وألوانه، متغلبا على برد نوفمبر/تشرين الثاني في نواكشوط.
يقول علي الشيخ للجزرة نت إنه يعشق المديح الشعبي منذ الصغر، وقد خضع للتكوين عليه من بعض المداحين الذين يمارسونه منذ عقود، ويضيف "عندما أبدأ في المديح أشعر بارتياح كبير، ولذلك قررت أن أدخل في هذا المجال، وقررت أن أواصل فيه".
المديح الشعبي هو التغني بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر خصاله وخصال صحابته الحميدة، وذلك بكلمات متناغمة ولديها قافية، ويزن المادح الكلمات على إيقاع واحد.
ليس هناك تاريخ محدد لظهور "المديح الشعبي" في موريتانيا، لكن الباحثين يجمعون على أنه ظهر عند شريحة العبيد في موريتانيا، لأسباب من بينها أنه لا يحتاج إلى تعلم، لذلك كان العبيد يتعبدون به ويتقربون به إلى الله، ويقول بعضهم إن "من رقص عليه لا تأكل النار جسده يوم القيامة".
ويقول المهتم بالتراث الشعبي الأستاذ يعقوب ولد السالك للجزيرة نت، إن المديح الشعبي عندما ظهر أول مرة ظهر في الجنوب الموريتاني على جهة النهر والحدود مع السنغال، فتأثر كثير من العبيد بالطرق الصوفية الموجودة في السنغال.
ويضيف يعقوب "نفسيا كان العبيد يشعرون بالراحة وهم يمارسون المديح الشعبي ليلا، لكنْ هناك أمر آخر، ففي بعض الأوقات يكون ملجأ لهم، فعندما يذهب بعضهم إليه، لا يستحسن السادة أن يدعوا العبيد للعمل بينما هم يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم"
محاولات لإحياء التراث
لم يكن المدّاح الشاب علي الشيخ ليحصل على فرصة تقديم دور مديحي أمام جمهور حي دار النعيم لولا محاولات مركز ترانيم للفنون الشعبية، وذلك من أجل النهوض بالمديح الشعبي وباقي تراث شريحة العبيد السابقين في موريتانيا.
قبل سنوات بدأ الشاب محمد بلال الذي ينحدر من شريحة لحراطين، العمل على طريقة لإحياء التراث الفني لهذه الشريحة، فأسس مركز ترانيم للفنون الشعبية، وأصبح ينظم أمسيات للفن الشعبي في بعض المناسبات والأعياد.
يقود الآن محمد بلال قافلة لاكتشاف مواهب شابة في المديح الشعبي، حيث يقوم المركز الذي يرأسه بتنظيم سهرات في أحياء شعبية بنواكشوط، يؤدي خلالها بعض الشباب أدوارا مديحية.
ويقول بلال -في حديث للجزيرة نت- إن "مشروع ترانيم للفنون الشعبية هو مشروع مجتمعي، أحاول من خلاله أن أغير النظرة السائدة للحراطين، لأن بعض الناس ينظرون لممارسي هذا الفن بدونية، مقارنة مع النظرة السائدة للفنانين الآخرين".
لكن محمد بلال الذي يطمح لتأسيس مركز للتكوين على الفنون الشعبية، يواجه تحديات كبيرة، من بينها عزوف الشباب عن هذه الفنون وضعف الدعم الحكومي له، لكنه في حديثه بدا متفائلا رغم العراقيل ونقص الدعم.
ويضيف "لدينا في ترانيم دعم من طرف الجماهير، وكذلك بعض الشخصيات التي تهوى الفنون الشعبية، وكذلك دعم من فريق مركز ترانيم، لكن الدولة يجب أن تقدم الدعم أيضا".
فنون شعبية مختلفة للحراطين
لدى شريحة لحراطين -العبيد السابقين- في موريتانيا الكثير من الفنون الشعبية، بعضها اندثر بتعاقب السنين، في حين بقي القليل منها يقاوم رغم التغيير الذي بدأ يدخل بقوة في المجتمع بسبب الهجرة المتنامية إلى المدينة، وعزوف الشباب عن التراث التقليدي في كثير من الأحيان.
من بين هذه الفنون الشعبية رقصة "لعب الدبوس"، وتشبه هذه الرقصة إلى حد كبير المبارزة عند العرب بالسيوف، لكن عند العبيد السابقين يتم استخدم العصا، وتتميز الرقصة بالحماس والسرعة والقدرة على المبارزة.
ويقول يعقوب ولد السالك إن ظهور هذه الرقصة ارتبط بالقتال على آبار المياه، حيث كانت العصا هي وسيلة الدفاع الوحيدة عند العبيد، وتحوّل الأمر إلى رقصة عند هؤلاء تحصل عند
الآبار، وتطورت إلى المناسبات.
إلى جانب رقصة "لعب الدبوس" يوجد نوع من الغناء يعرف بـ"بنجه" وهي غناء باللهجة الحسانية، أصبح يظهر بقوة في الأعراس، يتميز بكونه لا يضم شعرا ولا كلاما موزنا، لكن يعتمد على قدرة المغنية على خلق عبارات تغني بها على إيقاع معين، وترقص عليه النساء.
المصدر : الجزيرة