تناول القرآن الكريم الحرية وأصّل لها، وبيَّن مقاصدها وفروعها في سياقات مختلفة ومعان متعددة، وهو ما يؤكده كل تشريع من تشريعاته التي أسست على مبدأ الحرية والاختيار، وهذا ما يؤكده الأساس العام للدين برفضه لكافة مستويات الإكراه في الدين، وحيث ارتفع الإكراه حلَّت محله الحرية الموازية لمبدأ الإكراه، وإذا حلل الإنسان هذا المبدأ القرآني فسيجد أنه تتجسد في معانيه وسياقات غيره من النصوص، حرية الإنسان المسلم وخاصة في المجالات التعبدية وفي العلاقات الاجتماعية، وسنبين أصل الحرية وعلاقته بالإنسان.
أصل الحرية هو الإنسان
يميل الإنسان بطبيعته الآدمية إلى الحرية ومفاهيمها، وهذا ما ينبغي أن يكون، فالإنسان مكوّن من عدة عناصر أبرزها الحرية، سواء كانت حرية فكرية أو دينية، وهذا ما يجعله أصلا للحرية التي تفقد حال فقد الإنسان، وبهذا التلازم بين الإنسان والحرية، انبثقت ضرورة ما ينظم هذه الحرية ويضبطها بشكل منظم، لئلا تعود على أصلها بالإبطال، ومن المنطلق تأسست الحاجة لقوانين تنظم الكل وتضبط تصرفه.
علاقة الحرية بالتحضر
كل تخلف حضاري ناتج عن نقص في الحرية، فالتحضر الإنساني تحضر يجب أن يكون في جو من الحرية، فلا تكتمل حضارة حتى تتفجر المواهب وتتفتق القدرات، ولا يتحقق ذلك إلا في جو من الحرية والإبداع، وهذا ما يفسر لنا الترابط بين الحرية كفضيلة أخلاقية والحضارة كمنتج بشري تنتجه الشعوب وفق أخلاقياتها وقيمها. والذي لا يشك فيه أن الحرية رافد مهم في بناء حضارة وتحضر مع قبول وجود فوارق في دلالة الحرية ومساحتها لدى الشعوب.
الحرية والإيمان تلازم لا ينفك وتلاصق في المعنى والدلالة، ولذلك عنون الفقهاء في كتبهم بأن الأصل في الإنسان الحرية، فتعاليم الإسلام بصالحيتها للزمان والمكان، لا يمكن أن يخلو فعل أو ترك عن إحدى دلالاتها اللغوية أو الشرعية أو الأخلاقية، وهو ما يجعل أمور الدنيا والدين محروسة وفق أسس لا يمكن تجاهلها أو استحضارها في التعاطي معها، وفي المسار تندرج قضية الحرية بأبعادها الثقافية والاجتماعية لتنصهر ضمن دائرة دلالة النص القرآني في جوانب منه مختلفة، ولهذا سيتعرض هذا المقال لبعض من الآيات القرآنية المتعلقة بالحرية، ليقدم فيها تفسيرات للنص تناسب مدلوليتها من خلال منظور القرآن، وفي السطور التالية نتناول النص القرآني مع التعليق عليه.
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
من هذا المنطلق تتبين حقيقة الحرية في أوسع أبوابها، حيث لا إكراه في الدين وما يتدين به الإنسان، فإذا كان الدين من سلّم أولويات المجتمع، فإنه يجب أن يمارسه الفرد في جو من الحرية ومن دون إكراه، فإنه بذلك تتسع هوة الحرية، وتترسخ في ذهن الفرد حرية العبودية التي يرتبط بها الإنسان مع الله في علاقته به. وهذا جانب من تفسير الآية تفسيرا نبويا: (عن عبد الله بن عباس من طريق ابن إسحاق بسنده في قوله: "لا إكراه في الدين"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له: الحصينُ. كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أسْتَكرِهُهما؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك) [موسوعة التفسير المأثور، 4/ 476].
(أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
في هذه الرسالة يتبين توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الله تعالى في تعامله مع الناس وأتباعه، حيث لا يكرههم بل يعلمهم حرية الاختيار ببيان الطرق، وفي هذا الأساس تتجلى قيمة الحرية كقيمة إسلامية يجب أن تكون ضمن أولويات الشرح والتحليل في المضامين الإسلامية المطروحة على الساحة، باعتبار الإسلام أكبر حام للحرية وأول مؤسس لها ضمن نصوصه وتعاليمه، فقد تربى جيل الصحابة على هذه القيمة بشكل رباني من الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل أن تحجب حجب الزمن كثيرا من المفاهيم الإسلامية التي طال العهد بها وابتعد الأمد فطالتها شهب النسيان.
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)
في إطار هذه الموازنة بين الحق والباطل تتكشف معالم الحرية من منظور الشرع، إذ يكشف الإسلام عن حقيقة كبرى مفادها أن الحق يجب أن يقدم بصورة جلية وحجة دامغة وبرهان، ساطع ليترك للناس حرية في الاعتقاد والاعتناق. وفي هذا المضمار يكون للمسلمين سبق في وضع أسس التعايش السلمي بين المجتمعات المتعددة المعتقدات والمختلفة المشارب، بهذه الأسس التي جاء بها الإسلام ودعا إليها وطلب من معتنقيه تجسيدها وتطبيقها، عمليا ليكون بذلك مجسدا الحرية التي تضمنتها القوانين العالمية اليوم، في أسبقية للإسلام لتلك القوانين البشرية.
من خلال هذه السياقات القرآنية والشرعية، يتأكد فضل الحرية كمبدأ إسلامي رسّخه القرآن وحث عليه ودعا أنصاره إلى تطبيقها عمليا وسلوكيا في جوانب الحياة التعبدية والعلاقات الاجتماعية، وهو ما تشير إليه الآيات السابقة مع تعاليقها.
في هذا المقال، أشرنا إلى أسس الحرية من خلال منظور القرآن الكريم في الجوانب التالية: الحرية التعبدية، وحرية الاختيار، وحرية المعتقد، وتركنا آيات أخر لم نذكرها وأحاديث تبين أهمية الحرية وركيزتها في التعامل البشري في جوانب كثيرة من الحياة، وهو ما يوجب علينا تناول الموضوع في مواضيع قادمة ضمن مفاهيم الحرية في منظور الشرع.