استبدت حمى الذهب بآلاف المنقبين الموريتانيين بعد أن سمحت لهم السلطات بالبحث عن المعدن النفيس في منطقة الشگات شمال البلاد. لكن ما يسيل لعاب الكثيرين يتحول أحيانا إلى مآس تذهب بأرواح الذين يجهلون أو يتجاهلون شروط السلامة في عمليات التنقيب. آخرها كان يوم الأحد 14 آذار/مارس 2021، حين استيقظ الموريتانيون على خبر انهيار بئر تنقيب عن الذهب على رؤوس مجموعة من المنقبين. ورغم محاولة انتشالهم من قبل فرقة من الجيش الموريتاني، أسفر الحادث عن وفاة 7 أشخاص، ولم ينج منهم إلا شخص واحد.
في يوم افتتاح منطقة الشگات، انطلق آلاف المنقبين عن الذهب من مدينة الزويرات باتجاه منطقة "الشگات" التي تبعد عنها 710 كلم. وقدر عددهم بـ 25 ألف شخص، يستقلون نحو 2000 سيارة رباعية الدفع. ليلتحقوا بآلاف من المنقبين الذين سبقوهم إلى مناطق أخرى متعددة.
وكانت شركة "معادن موريتانيا"، أعلنت عن فتح منطقة الشگات أمام المنقبين في تاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2020، لتنضاف إلى مناطق أخرى للتنقيب التقليدي في موريتانيا، مثل منطقة گلب أندور وتيجريت وغيرهما. لكن الحادث الذي وقع خلال "حفلة" البحث عن المعدن النفيس تحول إلى مثار للجدل، وأرجع إلى الواجهة نقاش التنقيب التقليدي عن الذهب والمخاطر التي تتهدد المنقبين. وعاد سؤال وجود الذهب من عدمه، الذي يطفو إلى السطح مع كل حادث مماثل.
مطاردة المجهول
البكاي ولد الصالح شاب موريتاني خريج كلية الحقوق، كانت له تجارب مع التنقيب عن الذهب، وتحدث لرصيف22، عن تجربته مع التنقيب قائلا: "تجربتي لم تكلل بالنجاح الكامل للأسف. كانت رحلتي الأولى في أول حملة عرفها البلد بشكل معلن ورسمي عن التنقيب التقليدي بالأجهزة التي تكتشف معدن الذهب على سطح الأرض سنة 2016".
يعترف الشاب أنه لم تكن لديه خبرة كافية كما هو حال الكثير من المنقبين الموريتانيين آنذاك، ويضيف: "أعلنت الدولة في تلك الأيام عن فتح باب تقديم طلبات التسجيل للراغبين في رخص التنقيب، وحددت أماكن من منطقة تجيريت دون غيرها وخاصة منطقة آحميم في ولاية إنشيري، وبعد أسبوعين تقريبا من مماطلة وزارة المعادن، حصلنا على رخصة أنا ومجموعة معي".
كانت الرخصة باسم أصدقاء البكاي، أما هو فتكلف بتموين سيارة رباعية الدفع. يتذكر تلك التجربة التي كان يهدف منها إلى المغامرة: "بالنسبة إليّ لم أكن أعول على نتائجه كثيرا. لأن قصة الذهب بدأت كشائعة انقسم الناس حولها بين مكذب، لا يرى إلا أنها عملية إلهاء يقوم بها النظام آنذاك محاولا لفت نظر البعض عن الأزمات الخانقة سياسيا واقتصاديا. تصديق نظرية المؤامرة عند البعض انتشر خاصة في أوساط من لديهم اهتمام بالشأن العام، وغالبيتهم من حملة الشهادات وغيرهم. لكن كان هناك المصدقون الذين دفعهم الفضول وحب المغامرة لمعرفة الحقيقة".
يحكي البكاي أن الإعلان عن فتح الباب أمام التنقيب وقع في ظروف خاصة. إذ نظمت انتخابات رئاسية قاطعتها أحزاب المعارضة 2014، وكان النظام مقبلا على استفتاء دستوري لم يكن محل إجماع لدى الطيف السياسي. ويضيف "أعلن رئيس الدولة في مهرجان خطابي في إحدى محافظات الشرق الموريتاني أن الدولة تفتح المجال للمنقبين في كل مكان وخاصة مناطق يقال بأن الدرك الوطني يمنعها على المنقبين، ومنها منطقة الدواس الواقعة قرب شركة تازيازت المنجمية، والتي تبعد منها حوالي أربعة عشر كلم في الشمال الشرقي من المنجم".
لكن حُلم البكاي واجته المتاعب. فإن كان من الأوائل الذين سبقوا إلى المنطقة فجر الإعلان الرئاسي إلاّ أن عدته للتنقيب لم تكن ملائمة. يقول إنه تعرض للاحتيال "بدأت رحلتي أنا ومجموعتي وجهازنا الكاشف من نوع Gpx-4500 الذي لم يكن ذا جودة عالية. لقد تم الاحتيال علينا من الباعة ككثيرين غيرنا ".
بعض المنقبين حالفهم الحظ، فبدأ الأمل يحذو الآخرين حينما رأوا أناسا يكتشفون قطعا من الذهب تتفاوت أحجامها وأوزانها. بعد أسبوعين في الميدان تقريبا استحدث البعض طريقة جديدة من البحث، وهي إزالة القشرة الأعلى من الأرض والبحث تحتها بالأجهزة، يقول البكاي مضيفا: "من خلال هذه العملية كان إجمالي ما حصلنا عليه حوالي 8.5 غراما من الذهب، قطعة واحدة متجانسة، والباقي جزيئات كل على حدة. تمكنت من العثور على الذهب بفضل جهاز أعاره لي أحد المنقبين مشكورا، ونبهني إلى أن جهازي غير أصلي ولا يمكنه تحديد الهدف بشكل دقيق. فكانت هذه الإرهاصات الأولى للحفر الذي سيؤول لاحقا إلى ما هو عليه اليوم".
أما تجربة عبد الرحمن حمي فتختلف عن حكاية زميله البكاي. تحدث حمي لرصيف22 عن حياته كمنقب قائلا:" تجربتي مع التنقيب تجربة جيدة جدا، وفيها الكثير من المكاسب المادية حيث المال والذهب والمعنوية وتذليل الصعاب والتغلب عليها. هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك المغامرات ومطاردة المجهول والأمل الكبير في الحصول على المغنم الذي قد يكون بينك وبينه بُعْد المشرق والمغرب، وقد يكون قاب قوسين أو أدنى منك. مع أن هذا كله لا يخلو من لذة المطاردة التي ينتشي بها الصياد قبل الإمساك بالطريدة".
عودة بالذهب أو "خفي حنين"
رغم بريق الذهب، فإن العائد المادي لا يتحقق دوما. يقول البكاي إن رحلته الأولى التي لم تدم إلا 18 يوما كانت مكلفة. فالأرض قاسية ولا تتوفر فيها مستلزمات المعيشة وأسعار الماء الصالح للشرب والغذاء والدواء باهظة. يضيف: "عدت أدراجي أنا ومجموعتي إلى نواكشوط، وكأننا عدنا بخفي حنين".
لكن البكاي استمر في التنقيب بعد تجربته الأولى وطور أساليبه، إذ يقول "تطورت الأساليب فصرنا نأخذ عينات من الأحجار يتم كسرها وحرقها بالنار بطريقة بدائية عند الحدادين التقليديين، ومن هنا بدأت فكرة الحفر تسيطر على عقولنا". بعد تجربته الأولى المخيبة للآمال، عاد البكاي إلى التنقيب "تجربتي الثانية من جزأين أولهما عملية استطلاع في منطقة أكان اقتصرت على بحث إمكانية العمل هناك فقط، وكان ذلك في كانون الأول/ديسمبر 2017. أما الجزء الثاني من التجربة فكان في 6 من آذار/مارس 2020 وامتدت إلى أغسطس من نفس العام. بدأت في منطقة تيجريت ومكثت زهاء شهرين، ومن ثم انتقلت إلى ضواحي منطقة تازيازت ولم تكن هذه التجربة إلا كسابقتها للأسف. نظرا لكثير من العوائق منها عدم حرية التنقل في أماكن التنقيب، وجميع أعمالي كانت تفوض إليّ من بعض من سبقوني إلى المنطقة وحصلوا على الرخصة بطرقهم الخاصة".
الحصول على الرخصة عن طريق الآخرين، "يستلزم أن ندفع لهم عمولة تصل إلى 25% من المنتوج الذي سنعثر عليه" يقول الرجل ويضيف "أما 75% الباقية فأتقاسمها مع العمال، بنسبة بين 30% إلى 40% وتصل أحيانا إلى 45% بصفتي المقاول والممول. كما أتحمل جميع التكاليف من توفير معدات ومعاش العمال حتى نصل للنتيجة المرجوة. دافعي وراء ذلك، هو تجنب الاحتكاك بالدرك الوطني المهيمن على المنطقة بحجة تأمين الشركة والمنطقة، وهذه هي حالة غالبية المنقبين، وخاصة في الأماكن التي وجد فيها أبسط مؤشر لوجود الذهب".
ويعتقد البكاي أن: "المردودية الاقتصادية للتنقيب عن الذهب ضئيلة جدا بالمقارنة مع ما يكلفه"، نظرا لما تفرضه الدولة من ضرائب كفرض "التصفية" مثلا في منطقة واحدة. فيُكلف سعر نقل كيس الحجارة مائة أوقية جديدة، وتصفية الغرام الواحد 150 أوقية جديدة (حوالي 4.2 دولار). هذا إذا كانت هناك نتيجة إيجابية، أما إن لم تكن فليس أمامه سوى تحمل التكاليف. كما أن فرض "طحن الحجارة في منطقة محددة وهي سياج منطقة التعدين في مدينة الشامي، ففيه الكثير من ضياع الوقت. السبب أن أصحاب الماكينات هناك لا تتوفر لديهم المياه ولا الكهرباء، كلهم يستعملون مولدات كهربائية تعمل بالبنزين، ولا يمكنهم تخفيض أسعار الطحن. ومع ذلك يضيع لك أسبوع أو اثنان في انتظار أن يصل دورك في طحن الحجارة، لأن أغلب أصحاب الماكينات لا يشغلون المولدات إلا في الليل بحكم أنها لا تتحمل العمل ليلا ونهارا مع وجود الأعطال المتكررة فيها".
للمنقب حمي رأي مخالف ويقول إن "المردودية الاقتصادية للتنقيب عن الذهب كبيرة جدا، ولا يمكن تخيلها على الاطلاق. فهذا الذهب نعمة كبيرة من نعم الله على هذا الشعب. ولا يوجد اليوم في البلد كله مكانا أدرُّ للدخل من أماكن التنقيب حتى في العاصمة ونواذيبو".
بالنسبة إلى حمي فإن المنقبين يعيشون في دعة وبقيتهم على الطريق وكلهم أمل أن يصلوا إلى مبتغاهم. ويضيف قائلا: "هذا عن الشعب، أما عن الدولة فهي المستفيد الأول. لأن استفادة هذا الكم الكبير من المواطنين يعتبر استفادة لها مع ما تجنيه شركة معادن المحكومية من أموال طائلة بدون أي خدمة تؤديها في المقابل للمنقبين".
ويعلق عبدو وهو أحد المنقبين في منطقة الشگات على قصة الذهب قائلا لرصيف22: "الحقيقة أن أمر الذهب صعب جدا، ولا يستفيد منه إلا أصحاب الإمكانيات والجماعات التي تستطيع تمويل نفسها".
مخاطر للمجازفين فقط؟
التنقيب عن الذهب محفوف بالمخاطر والعوائق وكل فترة تعلو أصوات صارخة بذلك. ومع كل حادث وفاة لأحد عمال قطاع التنقيب يتأكد ذلك. لكن عبد الرحمن حمي يرى أن المخاطر تكمن في بعض الآبار الذي لا يأخذ فيها بأسباب السلامة. وسبب ذلك بالنسبة إليه هو الدولة نفسها، "التي تسمح للمواطنين بالحفر في منطقة حتى إذا وجدوا مؤشرا لوجود الذهب بكميات كبيرة جاء الدرك أو الجيش ليمنعوا المنطقة، أو يعدوا بإغلاقها". ويضيف "وقتها يكون احترام معايير السلامة ضربا من الخيال إذ يسابق المنقبون الزمن معرضين حياتهم للخطر في سبيل الحصول على ما تيسر من حجارة وتربة ذهبية قبل موعد الإغلاق المقرر أو قبل عودة دورية الأمن". ويوضح قائلا "هناك منطقة في تازيازت ستغلق في منتصف الشهر القادم كما أعلنت عن ذلك الوزارة. وهذه المنطقة تسمى تفرغ زينة. إن هي أغلقت دون الأخذ بطرق السلامة فالمتوقع لا قدّر الله هو المزيد من الأرواح"
ويرى البكاي ولد الصالح أن من أسباب تكرر حالات الوفيات: "عدم وجود فرق إسعاف تتدخل في حال إذا ما وقعت حوادث انهيار ".
ويعزو عدم تطبيق المنقبين لإجراءات السلامة إلى عوائق عدة، تجعلهم في حاجة لإيجاد الذهب في أسرع وقت لتغطية خساراتهم. ومن ضمن العوائق أمام المنقب بحسب البكاي "قساوة الأرض وشح مستلزمات الحياة وغلاؤها، وعدم حرية التحرك للتنقيب بسبب تسلط الدرك، وإثقال كاهل المنقبين بالضريبة، والرشوة وتسلط أصحاب النفوذ ممن لهم علاقة بالجيش".
وتحدث عبد الرحمن حمي عن العراقيل التي واجهته هو شخصيا، فقال: "العراقيل التي واجهتني تتلخص في غياب دور الدولة وتمثيلها في الميدان، حيث يختصر ذلك في أفراد من الدرك إن وجدوا. كل يعمل على شاكلته ولجيبه يكون مع من يدفع له وضد من لم يجد ما يدفع". وهناك بالنسبة إلى حمي أيضا مشاكل غياب المراكز الصحية ونقاط المياه الصالحة للشرب وعدم توفر شبكات الاتصال في كثير من المناطق. "كان هذا حلما كبيرا لنا ومطلبا أساسيا قبل دخول شركة "معادن موريتانيا" على الخط أواخر العام الماضي الذي لم يغير شيئا. رسوم كبيرة وضرائب أكبر ولا شيء في المقابل على الإطلاق" يقول الرجل بحسرة.
للمنقبين عن الذهب في موريتانيا مطالب يرفعونها وسبق أن احتج البعض منهم على قرارات الحكومة الموريتانية اتجاههم. وقال عبد الرحمن حمي "ما يحتاجه المنقبون من الدولة، هو في الأساس الماء والدواء والطمأنينة فلا تضايقهم شركة أجنبية أو وطنية أو كتيبة جيش ولا درك فيعرفون مالهم وما عليهم". أما البكاي فقال: "ما نحتاجه من الحكومة هو أولا إعفاء المنقبين من الضرائب أو تخفيضها حتى تكون رمزية، وتشجيع المواطنين على التنقيب، وخاصة البسطاء من الشعب. ثانيا دعم مجال التنقيب بتوفير معدات جيدة وذات جودة عالية، والسماح لهم باستخدام آليات الحفر لتسهيل عملية الاستخراج إلى جانب توفير بيانات خرائط التنقيب المحددة لنقاط تواجد الذهب، وتوفير وحدات ومعدات مدربة ومتخصصة في عمليات الإنقاذ". ويرى البكاي أن دعم المنقبين بشراء إنتاجهم بأكبر سعر، بشكل حقيقي وغير صوري موردا كمثال على ذلك وكالة البنك المركزي التي "لا يوجد سوى اسمها في السياج، ولا يزورها زائر بسبب ضعف السعر الذي تقدمه للمنقبين مقابل الذهب" كما يقول. ويظل الرهان الأهم، هو الحفاظ على أرواح المنقبين التي تزهق بعضها في رحلة البحث عن الكنز.
رصيف 22