قليلة في عصرنا اليوم مبادرات وإرادات الجود والكرم، ولعل صعوبات الحياة وأنانية المجتمعات والعيش الانفرادي الذي يطبع إنسان اليوم، هي التي قضت على هذه السجايا الطيبة وأحلت محلها البخل والحرص والشح.
ينقصك فلس وأنت تشتري دواء من صيدلية، أو خبزة من مخبزة فلا تجد من أفراد طابورك من يعرض عليك تكملة السعر، فالعقلية السائدة هي أن كل فرد متروك على ما في جيبه.
ومنذ القدم نظر إلى البُخل بوصفه إحدى الرذائل: فالبُخل هو تَرْكُ خُلُق الإيثار عند الحاجة، ومن المُمكِن أن يتمثَّل البُخل في قِلّة إنفاق المال، أو البُخل في الإصلاح بين الناس، وخاصة إذا كان الإنسانُ صاحبَ قدرة على التأليف بين قلوب الناس، وقد قال بعض الحُكماء عن البُخل: «إنَّ الرزق مَقسوم، والحَريص مَحروم، والحَسود مَغموم، والبَخيل مَذموم».
والبُخل لغةً هو عكس الكَرَم، وعرَّفَ الأصفهانيّ البُخل على أنَّه إمساك مُقتَنَيات الإنسان عن الأمور التي لا يحِقُّ له أن يحبسها عنها؛ وعرَّفَ الجرجانيّ البخل على أنَّه مَنْعُ الإنسانِ المالَ عن نفسه، وعرَّفَ ابن حجر البُخل على أنَّه مَنْعُ الإنسانِ لما يُطلَب منه ممّا يقتنيه؛ وقد عُرِّفَ البُخل على أنَّه مَنْعُ ما لا يَضُرُّ دَفْعُه، ولا ينفعُه إمساكُه، كما عُرِّفَ على أنَّه مَنْعُ الأمرِ الواجبِ، وقيل في البخل أنَّه رؤيةُ الإنسان المالَ الذي يُمسِكُه شَرَفاً، والمال الذي يُنفِقُه تَلَفاً؛ كما قيل إنَّ البخل هو إمساك المال الذي يَجبُ بَذْلُه في حُكْمِ الشرع، مثل: الزكاة، والهديّة للأقارب، أو الجيران، أو الأَصدقاء.
والشُّحُّ لُغةً هو البُخل مع الحِرص، والفرق بين البُخل والشُّحِّ هو أن البخيل كريم على نفسه بخيل على غيره، أمّا الشُّحُّ فهو أن يكون الإنسانُ بخيلاً على نفسه وعلى غيره على حدٍّ سواء.
وهناك إلى جانب البخل بالمال البُخل بالعِلْم، وهو أسوأ وأقبح أنواع البُخل، حيث يقوم صاحب العِلْم بكَتْمِه عمن يحتاجُه، فهو لا يَنصحُ ولا يُعلِّم الآخرين.
وفي حديث عبدالله بن الشخير قال: «أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو يقرأُ : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ؛ قال «يقولُ ابنُ آدمَ : مالي، مالي ( قال) وهل لك، يا ابنَ آدمَ من مالكَ إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأمضيتَ؟».
وقص الجاحظ في كتابه الشهير «البخلاء» العديد من النوادر التي تصف حياة أهل عصره، حيث أنه عاش في كنف الدولة العباسية، والكتاب فيه من طرائف ونوادر البخل الشيء الكثير، سيما عند أهل خراسان، والتي جاءت تحت عنوان «طرف أهل خراسان».
ومن هذه الطرف: «قال أصحابنا: يقول المروزي للزائر إذا أتاه، وللجليس إذا طال جلوسه: تغديت اليوم؟ فإن قال: نعم، قال: لولا أنك تغديت لغديتك بغداء طيب، وإذا قال: لا. قال: لو كنت تغديت لسقيتك، فلا يصير في يده على الوجهين قليل ولا كثير».
ومن قصص أهل خراسان أيضاً: «وقال ثمامة: لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب. قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم».
وميزة هذه القصص بحسب إجماع كثير من النقاد، أنها تلقي الضوء على أسلوب الجاحظ الذي تميز بأنه يجري في مستويين، واحد هو مراعاة السليقة، أي ما يجري على ألسنة العوام، وثانياً مخاطبة النخبة، وهو يتناول في هذا الكتاب نصوصاً أدبية موجزة وشائعة في العصر الإسلامي، حيث ملامح الشعر والخطابة وما يرافق ذلك من سجع وبلاغة وتورية وحسن صياغة وفرادة في البيان والتصوير.
وقد تنوعت في نوادر الجاحظ مظاهر الهزل والإضحاك والسخرية بحسب كثيرين، وهي تهدف إلى مقاصد مختلفة، منها ما يحقق النقد الاجتماعي ومنها ما يحمل القارئ، بل يدفعه على تبني سلوك الكرم والسخاء وهو قيمة عربية أصيلة.
المصدر عبد الله مولود القدس العربي "بتصرف"