من منا لم يتعرض لأذية الثقلاء، أولئك الذين يوزعون الأذى بين الناس، بسلوك موغل في البلادة وتحجر المشاعر؟ أليس لكل منا ثقلاؤه الذين يعرفهم ويتحاشاهم، لما أضاعوه له من وقت ثمين؟
والثقلاء أشخاص لا يخلو منهم مجتمع ولا مجلس ولا موقع عمل، يتميزون بالبلادة وتحجر المشاعر، لا يكادون يشعرون بمدى أذيتهم للآخرين، ولا يدركون مقدار وحجم الضرر النفسي الذي يتسببون فيه للمتعاملين معهم؛ لا يعلمون أن وجودهم والتعامل معهم يشكل عبئاً نفسياً ثقيلا وعناء روحيا هائلا يصعب تحمله والصبر عليه.
يكون عند أحدنا عمل مستعجل وحساس لا يمكن أن يتأخر في أدائه، حتى إذا أراد إنجازه، انحشر أمامه في الوقت الضائع، ذلك الجبل الثقيل أو دلفت إليه تلك السيدة لينشغل في أمور تافهة، وليضيع وقته، ويتأخر عمله.
أحيانا يأتيك الثقيل وأنت على وشك أن تنام فيجلس معك بظله الكثيف وكلامه الماسخ ليبدأ قصصه التي لا تنتهي، وسرد بطولاته الكاذبة، فتكون مضطرا لمجاملته فتبقى مستمعا لهرائه وأكاذيبه، وأحسانا يأخذك النعاس بين يديه دون أن ينتبه إلى أنه يقتلك بهذه الجلسة الثقيلة.
ومن سمات الثقلاء كثرة التطفل على الغير والتدخل في شؤون لا تعنيهم وطول المقام والمكوث، ومنها الإسهاب الممل في الأحاديث، وكثرة المزاح والسخرية والتندر، والسعي للسيطرة على المجالس العامة والخاصة، ومن سماتهم أيضا خشونة الطبع وغلظ الحس، والقدرة الفائقة على إثارة الضجر والكآبة في النفس.
ولا يمكن حصر صفات الثقلاء لكن من أكثرها شيوعا الفضُول، وقلَّةُ الحياء، والسؤالُ عما لا يعنيه، والتأخرُ عن المواعيد، ومنها أن الثقيل إذا دُعي إلى إكرامٍ أتى برجلٍ معه، وإذا دخل دارَ قومٍ جلسَ في مكان مخصص لغيره، ومنها الجلوس في الأماكن التي يتأذى الناسُ بالجلوس فيها، كالجلوس أمام حمام المرأة، ومنها إطالة الجلوس عند المريض، وكثرةُ التردد على الأصدقاء، وأصحاب المعارف، في أوقات النوم أو الطعام أو الشغل، ومنها مواجهة النَّاسِ بالكلامِ المؤذي، فيكسر قلوبهم، ويجرح عواطفهم، ومنها مصافحة النَّاس، وبيده بلل ماء أو عرق، أو العطاس دون وضعِ شيء على فمه، فيشمئز منهُ الحاضرون، أو يسعل أثناء الطعام، فلا يضع وجهه، أو يحوله من جهة لأخرى، ومنها التكلم باللغة ِ الأجنبية، أمام محضر من النَّاسِ، وهو عربي، ومنها أن يمدح نفسَه كثيرًا، ويمدح أعمال أولاده.
وعانى النبي عليه السلام من ثقل الثقلاء حتى حذر القرآن من الثقل، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت آية في الثقلاء (فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث).
وتزخر المكتبة العربية بالمؤلفات الخاصة بمجال الثقل؛ وللثقل وجوده الكبير في دواوين الشعر والأدب: فقد خصص الحريري عدة مقامات من مقاماته لنقد الثقل، وألف الإمام السيوطي كتابا سماه «إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء» سرد فيه قصصا وأقوالا عن الثقل والثقلاء، منها قول سفيان الثوريّ: إنَّه ليكون في المجلس عشرة كلهم يخف عليّ، فيكون فيهم الرجل الذي استثقله فيثقلون عليّ؛ وقيل للأعمش: ما عوَّضك الله من ذهاب بصرك؟ قال: ألا أرى به ثقيلا؛ وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه، وغمك بسؤاله، فأعره أذناً صمَّاء وعيناً عمياء. وفي كتاب: «نزهة النُّدماء» قال بختيشوع للمأمون: يا أمير المؤمنين: لا تجالس الثقيل فإنّ الثقيل حمى الروح.
وقيل للأحنف بن قيس: ما ألذ المجالس؟ قال: ما سافر فيه البصر، وأبدع فيه البدن، وكثرت فيه الفائدة، وعدم فيه الثقيل.
وألف محمد الزمزمي كتابا بعنوان «أخبار الثقلاء والمستثقلين» يقع في ثمانين صفحة، عرَّف فيه الثقيل، وذكر أصنافهم، وعدَّدَ أخطاءهم، وذكر طَرَفًا من طُرَفهِم، وأبياتًا هُجوا بها وانتقدت سلوكهم.
والناس في التعامل مع الثقلاء أصناف: فهناك من يتهربون من ملاقاة الثقلاء، فيعتذرون عن استقبالهم، ويتناومون عنهم إذا دخلوا دون استئذان، وهناك أيضا الأبطال الصرحاء الذين لا يجاملونهم بل يواجهونهم بالطرد وبسيل الاعتذارات.
لا مناص من الثقلاء وثقلهم في هذه الحياة، وقانا الله جميعا، فإما المعاناة من جبال ثقلهم وإما مواجهتهم ورفض ثقلهم وهو ما قد ينجر عنه خطب آخر أكبر؛ فاختر أي السلوكين تسلك، وانظر أي أذنيك أقرب، كما يقول المثل.
القدس العربي