واحدةٌ من سجايا المواسم السنوية لجوائز للرواية العربية أنها يحدُث أن تنقذ نصوصا لكتّابٍ شبّانٍ مقتدرين من الإهمال والترك، سيما وأن النقد التطبيقي العربي كسول، وأنهم قلةٌ معدودون من تراهم منشغلين، إلى حد ما، بمتابعة الجديد من هذه الأعمال (محمد برادة ونبيل سليمان وفيصل دراج مثلا)، وسيما، قبل ذلك وبعده، أن الصحافة الثقافية العربية الراهنة، في غالبها الأعم، أكثر من بليدة. مناسبة هذا الاستهلال أن روايةً، أكثر من لافتة، للموريتاني الشيخ أحمد ألبان، "وادي الحطب" (دار ميارة للنشر والتوزيع، تونس، 2019)، ينبّهنا إليها تكريمها بإحدى الجوائز الخمس للدورة السادسة من جائزة كتارا للرواية العربية، الأعمال المنشورة، (930 مشاركة، 21 عضو لجنة تحكيم). رواية ذات منحىً كلاسيكي في مبناها، نهضت على سرد راويةٍ عليم تفاصيلها المتتابعة. تقرأها (320 صفحة)، فتواجهك مشكلة قلة قراءاتك روايات من موريتانيا، سيما وأن أمكنتها في باديةٍ في هذا البلد، والزمن الذي تتوالى أحداثها فيه في بعض ثلاثينيات القرن الماضي ونصف أربعينياته. ويزيد من المشكلة هذه أنك ترتحل، في صفحات هذا النص الذي يتوفر على جاذبيةٍ وتشويقٍ مؤكّدين في مسارات الحكي وانتقالاته، في عوالم أرضٍ لم تنشغل بها الروايات العربية كثيرا، أرض القبائل ومنازعات شيوخٍ وأعيان فيها على السلطة، وإنْ صارت هذه الموضوعة، أخيرا، تغري روائيين عربا بمحاولة اختبار قدراتهم في إقامة عالم من القص والحكي، في سياقها. غير أن الشيخ أحمد ألبان يغادر بك إلى منطقةٍ في موريتانيا، اسمها أفلة، ويبني محكياتٍ تتواشج فيها أنفاس الحب وعذابات العبيد (والإماء) وأشواقهم وشهوات السلطة والزعامة ودسائس المستعمر الفرنسي الذي يوطّد سطوته على المكان وناسه.
قرأت أن "وادي الحطب" أول رواية موريتانية تنشغل بمنطقة أفلة، وهذا يُحسب لها، غير أن الذي يعدّ منجزَها أنها أفادت كثيرا من معرفة كاتبها بالمكان وتضاريسه الاجتماعية وتفاصيله المعيشية ومناخات البداوة فيه. وبعد ذلك كله وقبله، لا تبسُط هذا كله من منزعٍ فلكلوري واستيحائي، وإنما لتقول الذي لا يسعدنا قوله، وموجزه أن في الوسع هناك، في صحراء البادية تلك، أن يصير المعارض العنيد جاسوسا، وأن تتغلّب نوازع التسلط والتمكّن على قيم الإيثار والفروسية، وإنْ يحدُث هذا في غضون وجود مقاومين للمحتل، وفيما التياع العشّاق والمحبين حاضر في ظلال تقاليد اجتماعية، شديدة المحافظة، لها أثقالها. ولا يقدّم الشيخ أحمد ألبان هنا إطلالةً سوسيولوجيةً للمكان وأهله هنا، وإنما يقصّ بلغةٍ طلقةٍ، وصّافة، ذات سعةٍ معجميةٍ ظاهرة، متأثرةٍ نوعا ما بثقافةٍ في العتيق والقديم، عن جوانيات ناسٍ يغالبون انتظاراتهم تحرّرا من أغلال شيخ القبيلة، العميل للنصارى (بحسب وصفٍ له)، ومن عبودية أرقّاء يعانون، لهم حبيباتهم وأغانيهم.
يغشاك تعاطفٌ كثيرٌ مع تربه فال، زوجة خطري، المخطوف في أول صفحات الرواية، المفرج عنه من السجن في آخرها. شوقُها له، مكابدُتها الحيرة في شكوكها بأخيها شيخ القبيلة، إمهادي، بأنه وراء خطفه، محكيات "وادي الحطب" عنها، وهي التي "شفتاها متردّدتان بين الاكتناز والارتخاء"، في ظن صاحب هذه الكلمات، من أبرع مقاطع الرواية التي أجادت السيطرة على إيقاع الزمن فيها، وحافظت على خيط التشويق بشأن اختفاء خطري والتباس حاله، مقتولا أو مخطوفا أو محبوسا، هو الذي يعارض المستعمر الفرنسي، قبل أن يهادنه على ما يوجز مختتم الرواية، يناهض إمهادي الذي "يستمدّ قوته من هيبة النصارى في قلوب العامة"، والذي احتاج في النص اشتغالا أقوى، كالذي تبدّى لشخوص الرواية العديدين، مركزيين كما سلماني، شقيق خطري، وهو الذي يبدو مراوغا، ولا تنكشف حقائقه سوى في خواتيم النص، أو ثانويين (إن جاز هذا التصنيف أصلا)، كما بتّار الذي "روحُه كشبّابة الراعي تُبكيها نفخة فم وتُسكتها ضغطة أنملة".
لربما جاء الفصل العشرون (الأخير) في "وادي الحطب"، على هيئة مدونةٍ يكتبها الحاكم الفرنسي، كزافييه، حلا لالتباساتٍ أوحت بها المحكيات التي تتابعت في مسار النص، عندما أفضى هذا الرجل في الذي كتبه بـ"ملاحظاتٍ" عن طباع "البُداة الجفاة" الذين أوحت الرواية، بشيءٍ من المكر المتقن، بأنها ربما صحيحة. ومما كتبه أن تطوّرات الأيام الأخيرة كشفت له "بعض الزيف فيما كتبه الرحالة الأوائل والمستكشفون عن صلابة تمسّك إنسان الصحراء بمبادئه وقيمه" .. لعلها لغة المحتل الغازي الذي استضعف ناسا بسطاء فقراء، فأدماهم بحيله ودسائسه وسجونه وسياط عساكره، لعلها هي هكذا. يتركنا الشيخ أحمد ألبان حيارى، وهذا نجاحٌ مضافٌ لروايته التي استحقّت فوزا مقدّرا لها.