بعد وصول الثلاثيني الكاميروني موسى نصر إلى مدينة مدنين بالجنوب التونسي، في سبتمبر/أيلول 2018 وقع ضحية شبكة اتجار بالبشر، يقودها كاميروني وتونسي، قاما بتشغيله في مجال البناء لكن فوجئ لدى مطالبته بأجرة عمله بعد 3 أشهر أن الوسيطين قبضا المال، وفق ما قاله لـ"العربي الجديد"، مضيفا بألم :"كنت أهان وتداس كرامتي بعبارات عنصرية مثل "كحلوش" أي أسود، وعد إلى بلدك يا عبد، لكن احتملت كل هذا مع عمل قاس يصل إلى 12 ساعة يوميا من أجل عائلتي".
نصر يعد واحدا من بين 50 مهاجرا إفريقيا وقعوا ضحايا شبكات الاتجار بالبشر، وفق ما رصدته العام الماضي جمعية "قلب الأسد من أجل الإنسانية" (مؤسسة تونسية للدفاع عن حقوق مهاجري دول جنوب الصحراء) كما يقول الناشط والقيادي بالجمعية جوزيف مابلا، مضيفا لـ"العربي الجديد" أنه يتم استقطاب الضحايا من خلال وسطاء في بلدانهم، وعند وصولهم إلى تونس تستقبلهم شبكات مكونة من تونسيين وأفارقة، تخدعهم وتجبرهم على العمل القسري وأشكال مختلفة من العبودية، وبعضهم يحتمل، أملا في تحقيق، رغبتهم بالسفر إلى أوروبا أو لإرسال المال لعائلته.
وهو ما حدث مع نصر، الذي تبخر حلمه بالعبور إلى إيطاليا، بعد ما قطع رحلة برية، مليئة بالخطر بدأت من بلده، عبر مسالك غير رسمية تربطها بالنيجر، ثم ليبيا وصولا إلى مدينة مدنيين التونسية، كما يقول.
تشغيل قسري واستغلال جنسي
يتزايد عدد حالات الاتجار بالبشر الموثقة من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالبشر (حكومية) منذ ثلاثة أعوام، إذ توصلت الهيئة إلى 1313 حالة في 2019، و780 حالة في 2018 و742 حالة في 2017 وفق ما كشفت عنه لـ"العربي الجديد"، روضة العبيدي، رئيسة الهيئة، والتي أوضحت أن 57% من حالات الاتجار في العام الماضي كانت لنساء، و48.1% لأجانب من 17 جنسية، من بينها ساحل العاج ومالي والسنغال والسودان وليبيا، موضحة أن 76.2% من إجمالي حالات الاتجار بالبشر في العام الماضي، جرى تشغيلهم قسريا، و10.8% تعرضوا للاستغلال الجنسي.
وبلغ عدد المتهمين في قضايا الاتجار بالبشر 841 متهما، منهم 346 امرأة تونسية بنسبة 41.1 %، مقابل 495 من الذكور، وتورطت 185 امرأة في التشغيل القسري مقابل 288 من الرجال، و130 تورطن في الاستغلال الاقتصادي مقابل 179 من الرجال و29 في الاستغلال الجنسي مقابل 16 رجلا، بحسب العبيدي.
المؤسف بنظر، سعدية مصباح رئيسة جمعية منامتي (تعنى بمحاربة العنصرية)، أن تلك الحالات تنتشر في المجتمع التونسي وخاصة لمهاجري جنوب الصحراء رغم أن تونس لديها تراث في إلغاء الرق ابتداء من 6 سبتمبر1841، عندما أصدر أحمد باي الأول أمرا يقضي بمنع الاتجار بالرقيق وبيعهم في أسواق تونس. كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت معدة في ذلك الوقت لجلوس العبيد بالبركة (سوق الصاغة حاليا) ثم أصدر أمرا في ديسمبر 1842 يعتبر من يولد بالتراب التونسي حرا لا يباع ولا يشترى، ثم تلاه صدور الأمر المتعلق بإلغاء الرق في 23 يناير/كانون الثاني 1846، ثم صدر أمر بجمع الأحكام المتعلّقة بإبطال العبوديّة في 29 مايو/أيار 1890 تضمن فصله الأول: "لا عبوديّة في مملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم".
وهو ما تؤكد عليه رابحة بن حسين، النائبة البرلمانية السابقة بلجنة الحريات والعلاقات الخارجية عن حزب نداء تونس، مبدية استنكارها لما يجري بحق المهاجرين، قائلة :"تونس كانت سباقة في إقرار عديد الاتفاقيات والقوانين، ومنها القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2018 الخاص بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وكل هذا يأتي بعد صدور إلغاء قانون الرق بـ 172 عاما"، مضيفة لـ"العربي الجديد" :"انتهاك حقوق بعض مهاجري جنوب الصحراء في التشغيل القسري واستغلال ظروفهم كأنهم وسائل وآلات للإنتاج وعدم منحهم أجرهم أو معاملتهم بشكل لائق، ضرب واضح للإنسانية وللذات البشرية ترتقي للعبودية، وهي ممارسات لا تليق بتونس ما بعد الثورة".
استغلال مهاجري جنوب الصحراء
تحتل ساحل العاج المرتبة الأولى، في نسبة الفاعلين الأساسيين بالوساطة والاتجار بالبشر، بنسبة 33% والكونغو 14% وليبيا 12%، ثم الكاميرون وتونس 9%، ومصر 2% وفق ما تؤكده دراسة كمية لوضعية المهاجرين "من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس"، أعدتها أستاذة علم الاجتماع بجامعة تونس فاتن المساكني في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ووفقا للدراسة، فإن 84.90% من 962 مهاجرا من دول جنوب الصحراء موجودون في مناطق بن عروس وأريانة وتونس ومنوبة في العاصمة تونس وولاية صفاقس وولايات سوسة في الوسط التونسي ومدنين (مناطق عبور المهاجرين) تعرضوا للاستغلال الاقتصادي (التشغيل القسري، والعمل بدون راتب) في تونس، و 75.60% عانوا من العنصرية و20% تعرضوا للتحرش و3% للعنف و3% عانوا من تدني الأجور وظروف العمل السيئة، مؤكدة أن 17.7% من المهاجرين أفادوا أن تنقلاتهم خارج أوقات العمل خاضعة لرقابة المؤجر.
وتختار شبكات الاتجار بالبشر، من يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة، وفق ما وثقته معدة التحقيق مع ثلاث حالات، وهم المالي إسماعيل أقالي، والسوداني أمجد حمدي، وسليمان تبوليس من كوت ديفوار، مؤكدين أنهم دفعوا لوسطاء في بلدانهم أوهموهم بالقدوم إلى تونس كسياح وتشغيلهم لاحقا، مبالغ مالية تتراوح بين 2800 (1020 دولارا أميركيا) و4200 دينار تونسي (1530 دولارا)، ولكنهم تخلوا عنهم ولم يعثروا على أي عمل، ما اضطرهم إلى النوم في العراء.
استقطاب المهاجرات
يجري استقطاب المهاجرات من دول جنوب الصحراء عبر عدة وسائل وضمن خطة تقودها شبكات تتولى التغرير بهم عن طريق وساطات تنطلق من بلدان الإقامة إذ يصفون لهم تونس على أنها جنة موعودة، وفق دراسة البحث عن الكرامة التي أجريت بالتعاون مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة بحثية تعنى بقضايا الهجرة والدفاع عن الحقوق)، بمشاركة هاجر عرايسية، أستاذة علم الاجتماع بجامعة تونس، وخالد طبابي ونعيمة الفقيه وهالة المؤدب، في ديسمبر الماضي، والتي وثقت معاناة 26 مهاجرة من دول ساحل العاج والكوت ديفوار ومالي والسينغال وإفريقيا الوسطى والكاميرون والنيجر، بينهن 6 قاصرات وعازبات وأمهات عازبات ومطلقات ومتزوجات تعرضن "للاستغلال في العمل بالمنازل والمقاهي والمطاعم، وسوء المعاملة التي ترتقي إلى معاملة العبيد، إذ يتم انتهاك إنسانيتهن وكرامتهن، ويتعرضن للسب والشتم"، ومنهن المهاجرة من كوت ديفوار، الثلاثينية ميراي التي تركت طفليها في بلدها وهاجرت إلى تونس بهدف تحسين ظروفها الاقتصادية. وبعد وصول ميراي إلى مطار تونس قرطاج الدولي، انتزع الوسيطان جواز سفرها، ما اضطرها للعمل المنزلي لمدة خمسة أشهر، من دون أن تحصل على أجرها، إلى أن تمكنت من الفرار بمساعدة بعض الجمعيات الحقوقية والعودة إلى بلدها كما تقول عرايسية.
الصمت خوفا من الترحيل
يفاقم عدم تسوية وضعية مهاجري جنوب الصحراء قانونيا عبر منحهم بطائق الإقامة، من معاناتهم، إذ لا يمكنهم رفع شكاوى، أو التظلم إذا ما تعرضوا للاستغلال وسوء المعاملة أو انتهاك كرامتهم، بحسب إفادة المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر.
وينص الفصل 23 من قانون 1968 المتعلق بحالة الأجانب في تونس على أنه "يعاقب بالسجن من شهر إلى سنة وبخطية تتراوح بين ستة دنانير ومائة وعشرين دينارا الأجنبي الذي: (1) يدخل البلاد التونسية أو يخرج منها بدون ان يمتثل للشروط المنصوص عليها بالفصلين 4 و5 من هذا القانون والنصوص التي ستصدر لتطبيقه (2) الأجنبي الذي لا يطلب تأشيرة إقامة وبطاقة إقامة في الأجل القانوني أو لا يطلب تجديدها عند انتهاء صلاحيتها (3) الأجنبي الذي يواصل إقامته بالبلاد التونسية بعد رفض مطلبه الرامي إلى الحصول على تأشيرة وبطاقة إقامة أو بعد رفض تجديدهما أو عند انتهاء صلوحيتهما أو عند سحب بطاقة إقامته"، ونتيجة لمخالفة أوضاع المهاجرين للبنود السابقة، فإنهم يفضلون الصمت في حال تعرضهم للانتهاكات، خوفا من الترحيل والعودة إلى بلدانهم الأصلية التي فروا منها، أملا بالعثور على حياة أفضل في تونس وفق ما قالته، زينب مروقي المحامية في منظمة محامون بلا حدود تونس (غير حكومية تعنى بدعم حقوق الإنسان)، مؤكدة لـ"العربي الجديد" ضرورة تغيير سياسة الدولة في التعامل مع مهاجري جنوب الصحراء من خلال رؤية واضحة للحد من الاتجار بهم، وهو ما تشدد عليه إيمان خليفة ممثلة مجلس أوروبا بتونس (منظمة دولية مكوّنة من 47 دولة تعنى بحماية حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون)، قائلة :"يدعم مجلس أوروبا برنامج لمساعدة الفئات الهشة ومن بينهم المهاجرين في تونس، وكذلك الاتحاد الافريقي ولابد من تكريس الجهود الرامية إلى الحد من ظاهرة الإتجار بالبشر وهتك الكرامة الإنسانية عبر تفعيل أطر البرنامج للقضاء على الظاهرة".
لكن المكلف بالإعلام في الهيئة الوطنية للإتجار بالبشر مالك الخالدي يؤكد أهمية توعية الوافدين الجدد إلى تونس بإمكانية الشكوى عبر الرقم الأخضر للهيئة 80104748 للتبليغ عن التجاوزات، كما التي تقع بحقهم من أجل تفعيل الجانب الوقائي ومحاولة وقف الظاهرة المتنامية.
العربي الجديد