الدكتور عبد الله الصيفي/ كلية الشريعة، الجامعة الأردنية
ملخص
تناول هذا البحث مسألة من مسائل بيع الثمار، ألا وهي الجوائح عند المالكية، وهي تلف الثمار المشتراة على الأشجار بسبب برد أو ريح أو آفة، وقد بينت في هذا البحث معنى الجائحة وأدلة وضعها، وشروطها، وكيفية احتساب الخسارة، ووقتها، وعلاقة الجوائح بنظرية الظروف الطارئة.
وتوصلت هذه الدراسة إلى أن الجائحة اللاحقة بالثمار إذا استوفت شروطها المعتبرة، فإن الخسارة الناجمة عنها تكون على البائع لا على المشتري؛ عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر بوضع الجوائح.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛
فمن نعم الله علينا أن منّ علينا بأن هدانا إلى العقود التي تنظم أمور حياتنا، والتي من خلالها نستطيع أن نلبي رغباتنا، ومن هذه العقود عقد البيع، ومجالات هذا العقد كثيرة منها بيع الثمار، ومن صور بيع الثمار أن يشتري الشخص الثمار على الشجر كما هو الحال في الحمضيات، ووجود الثمر على رؤوس الشجر يعرضه للإصابة بالآفات التي قد تتلف هذه الثمار وهذه الحالة يطلق عليها الجائحة فما حكم العقد في مثل هذه الحالة؟ وما هي الآثار المترتبة على حدوث هذه الحالة؟
من هنا جاء هذا البحث ليعرض الجوائح ويبينها عند المذهب المالكي، الذي كان له السبق في إظهار الجوائح وأحكامها.
منهجية البحث:
كانت منهجيتي في هذا البحث على النحو التالي:
1. اتبعت في بحثي هذا منهجين، المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي.
2. الرجوع إلى الكتب الأصيلة في المذهب المالكي.
3. نسبة كل قول إلى قائله عازياً قوله إلى كتبه ما أمكن.
4. تخريج الأحاديث النبوية والآثار.
5. عرض مسألة البحث عند المالكية كما وردت في كتبهم مع التوضيح والتعليل، وعدم مقارنة ذلك بما في المذاهب الأخرى؛ التزاماً بعنوان البحث، وإظهاراً للجوائح عند المالكية.
الجهود السابقة:
لا أدعي أنني جئت بشيء لم أسبق به فقد كُتب في هذا الموضوع من قبل وكانت هذه الدراسات على النحو الآتي:
1. الجوائح وأحكامها، تأليف د. سليمان الثنيان، وهذا الكتاب أصله رسالة ماجستير مقدمة في جامعة الإمام محمد بن سعود، وهذه الرسالة قيمة وكان لي بعض الاستدراكات عليها ضمنتها البحث.
2. نظرية الظروف الطارئة، تأليف د. عبد السلام الترمانيني، وهذا الكتاب تكلم عن الجوائح كفكرة عامة موجودة في الفقه الإسلامي دون بيان للفرعيات جميعها، وكان كلامه في أربع صفحات (68-74)، فقد ذكر تعريفها ومحلها باختصار شديد، وتكلم عن وقت الإصابة بالجائحة، والمقدار الموضوع منها.
3. نظرية الظروف الطارئة بين الشريعة والقانون، تأليف فاضل النعيمي، وهذا الكتاب أصله رسالة ماجستير، وهو أفضل من كتاب الترمانيني، لكن فيه اختصار للموضوع، حيث بحثه في خمس صفحات ثم أتى بعد ذلك ببعض النصوص عند المالكية.
تقسيم البحث:
جاء هذا البحث في مقدمة وخاتمة وستة مطالب، وكانت على النحو التالي:
المقدمة: في أهمية الموضوع والمنهجية والجهود السابقة.
المطلب الأول: في معنى الجائحة.
المطلب الثاني: في طبيعة الجائحة.
المطلب الثالث: في أدلة وضع الجوائح.
المطلب الرابع: شروط الجوائح.
المطلب الخامس: شرط البراءة من الجائحة.
المطلب السادس: علاقة الجوائح بنظرية الظروف الطارئة.
الخاتمة: في أهم النتائج المتوصل إليها.
وأخيراً فهذا الجهد المستطاع فإن وفقت فمن الله تعالى وله الحمد والمنة وإن كانت الثانية فمن عجزي وتقصيري وأستغفر الله تعالى.
المطلب الأول: معنى الجائحة
أولاً: الجائحةُ لغةً: من الجوح والجوح هو الاستئصال، وجاحتهم السنة جوحاً وجياحة إذا استأصلت أموالهم، وسنة جائحة أي جدبة(1).
يقول ابن فارس: "الجيم والواو والحاء أصل واحد وهو الاستئصال، يقال جاح الشيء يجوحه استأصله، ومنه اشتقاق الجائحة"(2)، والجائحة المصيبة تحل بالرجل في ماله فتجتاحه(3) والجوحة والجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة(4).
ويتضح أن الجائحة في اللغة هي مصيبة مذهبة، أو متلفة للمال، أو النفس أو غيرهما.
ثانياً: الجائحة اصطلاحاً:
1- عرفها أبو الحسن المالكي والنفراوي بأنها: "هي مالا يستطاع دفعه كالبرد والريح والحشيش"(5).
2- عرفها ابن عرفة بأنها: "ما أتلف من معجوز عن دفعه عادةً قدراً من ثمر أو نبات بعد بيعه"(6).
- يقول د.الثنيان في كتابه الجوائح: "وعرفها خليل بقوله هي ما لا يستطاع دفعه"(7) لكن في الحقيقة كانت عبارة خليل هي: "وهل هي ما لا يستطاع دفعه"(8) والملاحظ أنه أورد كلامه على صورة استفهام فأرى أن حمل كلامه على أنه تعريف للجائحة بعيد، والله أعلم.
وقفة مع التعريفين:
إن الناظر في التعريفين السابقين يلاحظ أموراً عِدّة هي:
1- إن التعريف الأول عرَّف الجائحة من حيث كنهها وطبيعتها (الذات) حيث قال هي ما لا يستطاع دفعه، أما التعريف الثاني فعرف الجائحة من حيث أثرها حيث قال ما أتلف من معجوز.
2- إن التعريف الثاني ذكر بالإضافة إلى الأثر (الماهية)، حيث قال من معجوز عن دفعه، وبالتالي فإنه كان أشمل من التعريف الأول.
3- إن التعريف الثاني احتوى على قيود هامة مثل: عدم تحديد كمية المتلف من النبات، وأن يكون الإتلاف بعد البيع.
التعريف المختار وشرحه:
بعد العرض السابق أرى أن التعريف الثاني (تعريف ابن عرفة) هو التعريف المختار، وبالتالي يكون تعريف الجائحة هو: "ما أتلف من معجوز عن دفعه عادةً قدراً من ثمر أو نبات بعد بيعه"(9).
- ما أتلف: التلف هو الهلاك والعطب والفناء(10).
- من معجوز عن دفعه: من هنا هي لبيان الجنس، وهذا القيد مهم جداً في الجائحة وهو أن يعجز عن دفعها وإن علم بها(11).
- عادة: أي على ما جرت به العادة(12).
- قدراً: أطلق المقدار المتلف دون بيان إلا في الثمار فسيأتي بأنه الثلث.
- ثمر: تشمل أي ثمر كان والمقصود بالثمر هنا هو حمل الأشجار(13).
- نبات: كالبقول من بصل أو خس أو جزر وما أشبهها(14).
المطلب الثاني: طبيعة الجائحة
اتفق المالكية على أن الآفات الطبيعية أو السماوية تعتبر من الجوائح مثل: الحر، الريح، الجراد، النار، العفن، الجليد، الطير، الدود، السموم، الثلج، انقطاع ماء العيون والسماء(15).
لكنهم اختلفوا في ما يصيب الثمار من صنع البشر إلى قولين:
القول الأول: لا يعتبر فعل الآدميين جائحة(16)، واستند هذا الفريق على أن الجائحة لا تكون إلا في الأمور السماوية اعتماداً على ظاهر الحديث الشريف حيث روى الإمام مسلم قي صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه"(17) وهذا قول مطرف وابن الماجشون.
القول الثاني: يعتبر فعل الآدميين جائحة(18)، استند هذا الفريق إلى أن الجوائح التي تكون من فعل الآدميين تشبه الجوائح السماوية(19) وإن النص على الجوائح السماوية كان من باب الأعم الغالب وذكر الأعم لا ينفي غيره وهذا قول أكثر المالكية.
واختلف أصحاب القول الثاني في فعل الآدميين الذي يكون جائحة على قولين:
القول الأول: يرى أنه يشترط في فعل الآدميين حتى يكون جائحة أن يكون غالباً لا يمكن التحرز منه ومثال ذلك: الجيش.(20)
القول الثاني: لا يفرق بين أفعال الآدميين، فجعل كل ما يصيب الثمرة من أفعال الآدميين يعتبر جائحة(21) وهو قول ابن القاسم.
الراجح عند المالكية من هذه الأقوال: أن الجائحة هي كل ما يصيب الثمر سواء أكان من فعل الآدميين أم سماوياً حيث صرح بذلك المالكية في أكثر من موضع وظهر كلامهم عندما تكلموا عن السارق هل يعتبر جائحة أولا.
جاء في كفاية الطالب: "ونقل الشيخ عن ابن القاسم أن السارق جائحة... وعليه تكون الجائحة الآفات السماوية والجيش والسارق"(22).
جاء في الفواكه الدواني: "وقال ابن عرفه (في معرض كلامه عن السارق) والأظهر في عدمه غير مرجو يسره عن قرب أنه جائحة وهو ظاهر المدونة"(23).
جاء في التاج والإكليل: "قال ابن القاسم ولو سرقها سارق كانت جائحة، قال ابن نافع ليس السارق جائحة، قال ابن يونس قول ابن القاسم أصوب لأنه فعل مخلوق لا يقدر على دفعه"(24).
وكان السارق من الأمور التي اختلف عليها وهذا الاختلاف راجع إلى الاختلاف السابق والراجح في الموضوع أن السرقة تعتبر جائحة إذا لم يعرف السارق أما إذا عرف السارق فإنه يرجع عليه بما سرق(25).
المطلب الثالث: أدلة وضع الجوائح
ذكر المالكية (26) العديد من الأدلة على وضع الجوائح من السنة النبوية الشريفة والآثار، وهذه الأدلة هي:
1- ما جاء في صحيح مسلم عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح)(27).
2- ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق)(28).
3- ما رواه ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا باع المرء الثمرة فقد وجب على صاحب المال الضمان)(29).
4- قال به كثير من الصحابة والتابعين فقد قضى عمر بن عبد العزيز بوضع الجوائح(30).
المطلب الرابع: شروط الجوائح
اشترط المالكية عدة شروط إذا تحققت وضعت الجائحة، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون شراء الثمرة مستقلاً عن الأصل(31).
أي أن المشتري اشترى الثمرة دون أصلها، أو اشترى الثمرة ثم اشترى أصلها، أما إذا اشترى الأصل والثمرة معاً أو اشترى الأصل ثم الثمرة فلا توضع الجائحة، وهناك رواية بالوضع، فقد جاء في التاج والإكليل: "عن ابن يونس إذا اشترى الأصل والثمر معاً ... فلا جائحة في الثمرة أو ألحق الأصل، ابن يونس إن اشترى ثمراً بعد زهوه، ثم اشترى الأصل ففيها الجائحة لا عكسه، ابن المواز إن اشترى الأصل ثم اشترى الثمرة بعد فلا جائحة أصلاً، ورواه يحيى وسحنون عن ابن القاسم، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن فيه الجائحة"(32).
وقد عللوا هذا الشرط بأمرين:
* إن الثمرة تابعة للأصل لا العكس.
* لأن البائع إذا باع الثمرة بعد بدو صلاحها فسقي الأصل عليه، لكن إذا باع الأصل فلا سقي عليه.(33)
اعتمد المالكية في بيع الثمار والأصل قاعدة أن كل ثمرة اشتريت مع الرقاب هي تبعٌ للرقاب فلا جائحة فيها لأن المقصود هو الرقبة، وقد خرجوا على هذه القاعدة بالإضافة لما سبق، مسألة ما إذا اكترى شخص داراً وفيها نخلات، فأصابت الجائحة ثمر هذه النخلات، فلا توضع الجائحة فيها ولو أتت على جميع الثمر؛ لأن الثمر تبع للدار (34).
الشرط الثاني: أن يكون بقاء الثمرة ليتم طيبها:
فإذا تناهت ومضى ما تقع فيه عادة فلا توضع(35)، أي إذا نضجت هذه الثمرة، ومر عليها من الوقت يمكن المشتري قطفها فيه فلا توضع الجائحة.
وبقاء الثمرة على الشجر له ثلاث حالات:
1- أن تكون الثمرة محتاجة إلى بقائها في أًصولها حتى يكتمل طيبها، وهذا لا خلاف في أن الجائحة توضع فيه.
2- أن تكون الثمرة غير محتاجة إلى بقائها في أصلها لتمام صلاحها ونضارتها مثل التمر اليابس والزرع، وهذا لا جائحة فيه باتفاق.
3- أن يتناهى طيبها ولكن تحتاج إلى تأخير لبقاء رطوبته كالعنب المشترى بعد بدو صلاحه، هذا فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: مقتضى رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يراعى البقاء لحفظ النضارة وإنما يراعى تكامل الصلاح.
القول الثاني: مقتضى رواية سحنون أن توضع الجائحة في جميعه(36) وهذا هو المعتمد عند المالكية كما ذكر ذلك الدسوقي(37).
القول الثالث: نقل عن سحنون إذا تناهى العنب وآن نضوجه وتركه صاحبه لسوق يرجوه أو شغل يعرض له فلا جائحة فيه، وهذا ما ذكره الدردير حيث قال: "وإن تناهت الثمرة في طيبها فلا جائحة لفوات محل الرخصة والمراد بتناهي الطيب بلوغها الحد الذي اشتريت له"(38).
الشرط الثالث: أن يكون الثمر عوضاً عن بيع(39).
تكلم المالكية في شرح هذا الشرط وذكروا صوراً لبعض العقود التي قد تتعرض للجوائح ومن هذه العقود:
- المهر:
صورة المسألة أن يعطي شخص ثمر بستانه مهراً لامرأة ثم يجاح الثمر، اختلف المالكية على رأيين:
الرأي الأول: لا تجري الجائحة في مثل هذه الصورة؛ لأن النكاح مبني على المكارمة التي بناؤها العرف، وهذا قول ابن القاسم(40).
الرأي الثاني: إن الجائحة تجري فيها؛ لأن المهر عوض كسائر الأعواض فتجري فيه الجائحة، وهذا قول ثانٍ لابن القاسم، وهو قول ابن الماجشون، وصوبه الصقلي واللخمي(41).
محل الخلاف كما حرره الدسوقي هو كون المهر ثمراً، أما لو كان المهر غير ثمر ثم عوضت فيه ثمراً ففيه الجائحة اتفاقاً(42).
الراجح عندهم والذي عليه الفتوى وضع الجوائح في المهر، يقول الدردير: "ولكن المعتمد الذي عليه الفتوى أن فيه الجائحة"(43).
- الخلع:
الخلع هو: مفارقة الرجل امرأته على عوض تبذله له(44).
لا توضع الجائحة فيـه ولو كانت توضـع في المهر لضعف الخلع عن الصداق حيث إن الخلع يجوز الغرر فيه دون الصداق(45).
- بيع الثمار مع استثناء البعض:
إذا قام شخص ببيع بستانه، واستثنى منه ثمار بعض الأشجار، أو استثنى منه كيلاً معيناً، وكان هذا المستثنى أقل من الثلث، ثم أصابت البستان جائحة فبالاتفاق توضع هذه الجائحة، لكن حصل الخلاف هل يتم وضع الجائحة من الكيل المستثنى، أم لا يوضع من المستثنى بل من ثمن الثمرة؟ وإليك الآراء(46):
الرأي الأول: توضع الجائحة من العدد المستثنى بقدره، وهذا قول رواه ابن القاسم وأشهب عن مالك.
الرأي الثاني: لا يوضع من العدد المستثنى قليل ولا كثير.
والراجح عند المالكية القول الأول، نقل العبدري قي التاج قول أصبغ حيث قال: "وهو الحق والصواب"(47) وقال ابن المواز: "وبه أقول"(48) يعني الرأي الأول.
رأي أبي الوليد في هذه المسألة:
رأى أبو الوليد الباجي(49) أن النقل عن الإمام مالك قد اختلف وقد نقد الرأيين ووجههما(50)، وكان جملة قوله أن المستثنى هل يتناوله البيع أم لا؟
- فعلى اعتبار أن البيع يتناوله ثم ارتفع بعد ذلك بعقد الاستثناء فلا جائحة فيه؛ لأن البائع قد ابتاع الثمرة المستثناة من المشتري، فوجب أن يكون ما استثناه البائع مقدماً على ثمرة الحائط ولو لم يبق من ثمرة الحائط شيء.
- وعلى اعتبار أن المستثنى لم يتناوله البيع وإنما أبقى الاستثناء المستثنى على ملك البائع، فالبائع في هذه الحال أصبح شريكاً للمبتاع، فوجب أن تكون الجائحة بينهما على قدر ما لكل واحد منهما من ثمرة(51).
-العرايا:
العرايا مفردها عرية وهي بيع رطب في رؤوس
نخلة بتمر كيلاً(52) ، وسميت بهذا لاسم لأنها عريت أو أفردت عن حكم باقي البستان(53).
إذا اشترى المُعرِي العريَّة ثم وقعت فيها جائحة، هل يوضع من ثمن العرية وتجري فيها الجائحة أو لا؟ في المسألة تفصيل:
أولاً : إذا كان ثمن العرية عيناً أو عرضاً فإن الجائحة توضع عن المشتري بالاتفاق عند المالكية(54).
ثانياً: إذا كانت ثمار العرية مقدرة بالأوسق(55) واجتيح الحائط ولم يبق إلا الأوسق فلا توضع الجائحة اتفاقاً، وذلك بالقياس على من أوصى بثمرة حائطه بثمرة حائطه لإنسان ولآخر منه بخمسة أوسق فتلفت هذه الثمرة إلا خمسة أوسق فإن جميعها له دون من أوصى له بسائر الثمرة(56).
ثالثاً : إذا كان ثمن العرية نخلاً معينة (الخرص)(57) فالمالكية على قولين في هذه المسألة
أ- توضع الجائحة فيها، وهذا قول مالك وابن القاسم وابن وهب.
ب- لا توضع الجائحة فيها، وهذا قول أشهب.
تعليل الرأيين:
أ- تعليل الفريق الأول إن الثمرة مضمونة بخرصها تمراً إلى الجداد فسقط عنه ذلك بالجائحة كالزكاة، ولأن هذا عقد شراء فهو كالبيع في جريان الجائحة.
ب- تعليل الفريق الثاني إن المشتري اشترى العرية دفعاً للضرر الذي يلحقه(58).
- المساقاة:
المساقاة هي دفع الشجر إلى من يصلحه ويقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره(59).
إذا أصيب البستان أو الحائط الذي عمل فيه الشريك بالمساقاة بجائحة فهل يبقى العقد الذي بينه وبين شريكه مالك البستان أو لا؟ في هذه المسألة تفصيل على النحو التالي:
1-إذا كانت الجائحة في الثمرة جميعها، أي في جميع ثمر البستان، فهناك رأيان:
الرأي الأول: أنهما شريكان في الثمار والنقص وليس للعامل أن يخرج وهذا القول رواه أشهب عن مالك.
الرأي الثاني: إن بلغت الجائحة الثلث كان له أن يسقي الحائط كله أو يخرج فإن خرج فليس له من علاجه ونفقته شيء وهذه رواية سعد عن مالك(60).
2- إذا كانت الجائحة في ناحية من نواحي البستان، هنالك رأيان:
الأول: تلزمه المساقاة في السالم إذا كان المجاح يسير الثلث أو أقل، وهذا قول محمد.
الثاني: لا سقي عليه في المصابة ويسقي السالم وحده ما لم يكن السالم يسير جداً كان يكون الثلث أو أقل فإذا كان كذلك (أقل من الثلث) خير مطلقاً، وهذا قول ابن المواز.(61)
- الإجارة:
قد يتعرض عقد الإجارة للجوائح، فما هي صور الجائحة اللاحقة بعقد الإجارة؟ وما أثرها عليه؟
ذكر المالكية صوراً للجوائح الواقعة على عقد الإجارة منها:
1- من استأجر أرضاً للزراعة ففسد الزرع بجائحة وكانت هذه الجائحة في الزرع نفسه الزرع كالطير والجراد فلا يحط شيئاً من الأجرة لأن الإجارة لازمة أما إن كان الفساد من قبل الأرض كالدود سقط الكراء جميعه(62).
2- رجل اكترى رحى سنة فأصاب أهل ذلك البلد فتنة جلوا بسببها عن المكان وجلا معهم المكتري أو أقام آمناً إلا أنه لا يأتيه طعام لجلاء الناس فهو كبطلان الرحى من نقصان الماء أو كثرته ويوضع عنه قدر المدة التي جلوا فيها، ويستثنى من هذه الحالة إذا قام شخص باستئجار دار ثم جلا أهل ذلك المكان لفتنة وأقام المكتري آمناً أو رحل وهو آمن ففي هذه الحالة يلزمه الكراء كله أما إذا كان بسبب الخوف فيسقط عنه مدة الجلاء(63).
3- خرّج المازري على خلو البلد مسألة ألا وهي أن رجل اكترى موضعاً لغسل الغزل بكراء غالي ثم أحدث رجل بقربه موضعاً آخر فنقص من كراء الأول، فقال المازري إن عقد على أنه لا يمكن إحداثه فجاء من ذلك ما لم يظن فله مقال كما يكون له إذا خلا البلد أو غيره مما ذكره العلماء وأما إذا كان من الممكن الإحداث فلا مقال له إذا نقصت الغلة.(64)
فالملاحظ من الصور السابقة أن المالكية اعتبروا الجوائح مؤثرة في عقد الإجارة ووضعوا من الأجرة بمقدار الضرر اللاحق بالمستأجر.
-الزكاة:
إذا أصابت الجائحة ثمار البستان فهل يجب وضعها عن المزكي فلا يضمن ما تلف من مال الزكاة للفقراء أو أنها لا توضع فيضمن ما تلف لهم؟
فصل المالكية ذلك على النحو التالي:
1- إذا أصابت الجائحة الثمر قبل خرصه فلا زكاة.(65)
2- إذا أصابته الجائحة بين الخرص والجذاذ وأحاطت بالثمر كله، سقطت الزكاة لأن الزكاة تجب بالخرص بشرط وصول الثمرة إلى أربابها، أي بشرط بقاء عينها.(66)
3- أذا بقي من الثمر ما يبلغ خمسة أوسق فأكثر زكى عن الباقي وليس عليه فيما أصابت الجائحة زكاة(67).
-الغصب:
الغصب أخذ الشيء ظلماً وقهراً، والمال المأخوذ يسمى مالاً مغصوباً(68).
فإذا غصب الشخص مال غيره فتلف كله بآفة سماوية (جائحة) وجب عليه الضمان؛ لتعديه بالغصب، وإن تعيب المال المغصوب؛ بأن تلف بعضه يخير المالك، بين أخذ المغصوب بلا أرش لعيبه، وتركه وأخذ قيمته يوم غصبه، بلا فرق بين قليل العيب أو كثيره (69).
- الوديعة:
الوديعة: هي المال المتروك عند الغير ليحفظه(70).
فإن تلف هذا المال بآفة سماوية (جائحة) فلا يضمنها المودع؛ لأن يده يد أمانة وضمانه لا يكون إلا بتعد أو تقصير(71).
بعد الكلام عن هذا الشرط أود أن أذكر أن د. سليمان الثنيان قال في كتابه الجوائح وأحكامها: "لم أر هذا الشرط مذكوراً عند أحد من العلماء سوى النفراوي، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنه أمر معلوم حيث أن وضع الجوائح لا يتصور في غير المعاوضات"(72) لكن العرض السابق بين أن الكثير من الفقهاء من تكلم عن هذه المسألة وليس كما ذكر الدكتور الثنيان.
الشرط الرابع: أن يبلغ ما أجيح الثلث(73).
اشترط المالكية هذا الشرط في جائحة الثمار(74) دون جائحة البقول.
تعليل اشتراط الثلث في الثمار:
أ- إن العادة جرت أن الثمر لابد وأن يسقط بعضه بسبب الهواء أو الطير أو ما شابه ذلك.
ب- والمبتاع عندما أراد أن يبتاع هذه الثمار كان متوقعاً أن تنقص هذا المقدار.
ج- ما كان أقل من الثلث يعتبر يسير أما ما زاد عن الثلث فهو الكثير(75).
تعليل عدم اشتراط الثلث في البقول(76):
* لعسر معرفة ثلثها؛ لأنها تقطع شيئاً فشيئاً.
* لأن أغلب جوائحها من العطش، فهي بحاجة مستمرة للماء أكثر من الأشجار(77).
لكن هنالك رأي آخر في المذهب وهو عدم الوضع إلا قدر الثلث قياساً على الثمر وهذا القول هو رواية علي بن زياد وغيره عن مالك، وهناك رواية ثانية أنه لا يوضع من جائحة البقل شيء قل أو كثر(78).
والمعتمد في المذهب عدم اشتراط الثلث لوضعها، جاء في المدونة: "في جائحة البقول قلت أرأيت البقول... إذا اشترى الرجل هذه الأشياء فأصابتها جائحة أقل من الثلث هل يوضع عن المشتري شيء أو لا قال مالك: أرى أن يوضع عن المشتري كل شيء أصابت الجائحة منها قل أو كثر ولا ينظر فيه إلى الثلث"(79)، وهذا ما ذكره ابن عبد البر في الكافي حيث قال: "وما أجيح به من البقول من قليل أو كثير من ظاهره أو مغيبه، فمصيبته من البائع ولا يكون على المشتري شيء منه إلا أن تكون الجائحة يسيرة تافهة لا بال لها، فتكون من المشتري هذا هو الأشهر عن مالك"(80).
يلحق بجوائح البقول من حيث عدم اشتراط ثلث التالف، الجوائح التي سببها العطش سواء أكانت في الثمر أم في البقول وتعليل ذلك: أن سقيها على البائع فأشبه ما فيه حق توفيه، بشرط ألا يقل جداً بحيث لا يلتفت إليه عادة فلا يوضع(81).
ويلحق بها كذلك ما يرعى كالجلبان(82) والبرسيم(83).
تقسيم المالكية لمحل الوضع من حيث جنس المعقود عليه:
قسم المالكية المحاصيل من حيث جنسها إلى ثلاثة أقسام:
1- الثمار: وهي النخيل والعنب والزيتون ونحوها فإذا أصابتها الجائحة بشروطها فإنها توضع؛ أي يتحملها البائع للحديث الوارد.(84)
2- البقول: وهي ما لا تطول مدته في الأرض كالبصل والخس والجزر وغيرها(85) ففيها رأيان(86): الرأي الأول: توضع الجائحة فيها لأنها محتاجة إلى البقاء في أصلها لتمام صلاحها ونضارتها، وهذه رواية سحنون عن ابن القاسم.الرأي الثاني: لا توضع الجائحة لأنه لم يبق فيه حق توفيه على البائع فبمجرد البيع تنتهي علاقته بهذه البقول وتكون من ضمان المشتري وحده، وهذه رواية أصبغ عن ابن القاسم.
3- ما جرى مجرى البقول: كالقثاء والبطيخ والقرع والباذنجان، فهذا فيه الجائحة، وحصل الخلاف في اشتراط الثلث في التالف والقول هنا كالقول في البقول فيرجع إليه(87).
كيفية حساب الثلث:
1- اتفق المالكية على أن النوع الذي تعرض للجائحة إذا كان مما ييبس أو يحبس أوله على آخره كالتمر أو الحمضيات فيعتبر فيه ثلث المكيلة لا القيمة(88).
2- إذا كان المبيع أجناساً مختلفة كالعنب والرمان فأصيب أحد هذه الأجناس بجائحة دون الأجناس الأخرى، اختلف المالكية في هذه المسألة على قولين:
أ- إن جائحة كل جنس معتبر بنفسه إن بلغت ثلثه، وهذا القول رواه ابن حبيب عن مالك.
ب- إن الجائحة تعتبر بالنسبة للجميع، وهذا القول رواه ابن المواز عن أصبغ.
أدلة الفريقين:
أ- استدل الفريق الأول: بأن المعتبر في الجائحة أن تبلغ الثلث، ونحن اعتبرنا الثلث حتى نميز بين الجائحة المعتبرة وغير المعتبرة.
ب- استدل الفريق الثاني: بالقياس على الحوائط المتعددة، أي البساتين المتعددة، فلو أن رجلاً اشترى حوائط متعددة من جنس واحد، فأصابت الجائحة أحدها لاعتبر ثلث الجميع وكذلك هنا.
فإذا ذهب بعض الجنس الواحد، فقد اختلفوا كذلك على قولين:
القول الأول: ينظر إلى الجنس المصاب إذا كانت قيمته تساوي ثلث قيمة الجملة فإذا أصيب منه ثلث ثمرته فتوضع فيه الجائحة أما إذا كانت قيمته لا تساوي ثلث قيمة الجملة أو ساوت ولم يذهب منه الثلث فلا توضع فيه الجائحة، وهذا قول ابن القاسم.
القول الثاني: ينظر إلى ثلث القيمة فإذا أصيب من الجنس الواحد ما يساوي ثلث قيمة الجملة فهي جائحة وإن كان أقل من ذلك فليس بجائحة.
أدلة الفريقين:
* استدل الفريق الأول: بأننا نحتاج إلى التقويم في اختلاف الأجناس، فإذا كان النوع واحداً رجع إلى الاعتبار به ، فالاعتبار بقدر الثمرة كما لو كانت مفردة.
* استدل الفريق الثاني: بأن الاعتبار بقيمة الجملة أو بذهاب ثلث الثمرة، أما اعتبار الأمرين معاً فهو خلاف الصواب.
3- إذا كان المبيع جنساً واحداً وأنواعاً مختلفة فأصيب نوع منها، أو كان مما لا يحبس أوله على أخره كالمقاثي، اختلف المالكية على قولين:
* إن الاعتبار بثلث الثمرة وهذا ما رواه ابن المواز عن مالك وابن القاسم وعبد الملك.
* إن الاعتبار بثلث القيمة، وهذا قول أشهب.
أدلة الفريقين:
* استدلوا بأن الثلث مقصود من أجل اعتبار الفعل جائحة أم لا، والنقص المعتاد الأصل فيه أن يكون في الثمرة فنعتبره في الثمرة.
* استدلوا بأن المقصود هو القيمة؛ لأنه بسببها يزيد الثمن أو ينقص، وقد يساوي الثمر القليل، الثمن الكبير، فلو أصيب هذا القليل باليسير للحقه الضرر، أما لو أصيب الكثير من الثمر الذي يساوي القليل لم يلحقه ضرر.(89)
وقت تقدير الخسارة(90):
تقدير الخسارة يرجع إلى طبيعة الثمار، ومن ثمّ بالتالي يوجد عندنا حالتان:
الأولى: إذا كانت الثمار يمكن ضم أولها إلى آخرها، ففي مثل هذه الحالة يعتبر وقت حدوث الجائحة هو الوقت المناسب لتقدير الخسارة.
الثانية: إذا كانت الثمار من ذات البطون، ففي هذه الحالة اختلف فقهاء المذهب على أربعة أقوال هي:
1- اعتبار قيمة كل بطن في وقته ولا يستعجل بالتقويم.
2- اعتبار قيمة الكل يوم البيع على تقدير وجود البطون، مثال ذلك لو أن أحد البطون أجيح يقال ما قيمته يوم البيع وما قيمة السالم لو كان موجوداً يوم البيع فيقال كذا وكذا.
3- اعتبار قيمة الكل يوم الجائحة، مثال ذلك لو أن أحد البطون أجيح يقال ما قيمة المجاح في ذلك الوقت فيقال كذا وما قيمة السالم لو كان موجوداً في وقت الجائحة فيقال كذا.
4- لا يستعجل بتقويم السالم على الظن والتخمين بل ننظر بعد انتهاء البطون كم تساوي كل بطن زمن الجائحة على أنها تقبض بعد شهر مثلاً، وهذا هو القول المعتمد عند المالكية.
يضرب الإمام مالك مثالاً لذلك وصورته أن رجلاً اشترى مقثأة بـ (150 ديناراً)، انتجت ثلاثة بطون متساوية في كمية الإنتاج، وكانت قيمة البطن الأول (100 ديناراً) والبطن الثاني (60 ديناراً) والبطن الثالث (40 ديناراً)، فكان مجموع قيمة البطون (200 دينار)، ثم أجيح البطن الأول وهو ثلث الثمر، فننظر كم قيمة هذا البطن إلى مجموع قيمة البطون؟ فإذا هي النصف؛ لأن قيمته (100 دينار) وقيمة مجموع البطون (200 دينار)، فيرجع المشتري على البائع بنصف القيمة التي اشترى بها المقثأة، وقيمة شراء المقثاة (150 ديناراً) فيرجع عليه بـ (75 ديناراً)، ولهذا يقول الإمام مالك: "فعلى هذا فقس جميع ما يرد عليك من هذا"(91).
إثبات الجائحة عند الخصومة:
تكون الخصومة في الجوائح في حصول الجائحة أو في قدر الذاهب بالجائحة.
أولاً: إذا اختلف البائع والمشتري في حصول الجائحة فالقول قول البائع؛ لأن الأصل السلامة فهو متمسك بالأصل حتى يٌثبت المشتري خلاف الأصل، وهذا قول فقهاء المذهب بالاتفاق(92).
ثانياً: إذا حصل الخلاف في القدر الذي أذهبته الجائحة هل هو الثلث أو أقل فالقول قول المشتري على المعتمد من المذهب(93).
المطلب الخامس: شرط البراءة من الجائحة
لو اشترط البائع إسقاط الجائحة فهل يعتبر هذا الشرط أو لا؟ عندما تكلم المالكية عن هذا الشرط كان
لهم قولان:
الأول: يعتبر هذا الشرط لاغياً ومن ثمّ فالعقد صحيح والشرط باطل ويلزم اعتبار الجائحة إذا استوفت الشروط المذكورة وهذا هو قول مالك في كتاب ابن المواز وفي سماع ابن القاسم وعليه اقتصر ابن رشد في البيان والمقدمات(94).
أدلة القول الأول:
1- إن هذا الإسقاط إسقاط للحق قبل وجوبه فلا يؤثر في صحة العقد(95).
2- لأن في هذا الشرط نقل للضمان عن محله فيترك الشرط ويصح العقد(96).
الثاني: يعتبر هذا العقد فاسداً وهو قول أبي الحسن.
أدلة القول الثاني:
لأن هذا الشرط فيه غرر، والغرر مفسد للعقد، فيفسد هنا(97).
وقفة مع الرأيين:
عندما تكلم الدسوقي عن هذين الاتجاهين ذكر أن المالكية حاولوا حمل الرأي الأول فيما ليس من عادته أن يجاح، والقول الثاني فيما كان من عادته أن يجاح، لكن الدسوقي يقول: "فإن هذا يقتضي أن كلام أبي الحسن مقابل لما قاله المصنف"(98) والراجح قول مالك.
المطلب السادس: علاقة الجوائح بنظرية الظروف الطارئة
قبل بيان العلاقة بين الجوائح عند المالكية ونظرية الظروف الطارئة لابد من بيان مفهوم نظرية الظروف الطارئة.
أولاً: مفهوم نظرية الظروف الطارئة.
تقوم فكرة نظرية الظروف الطارئة على افتراض إبرام عقد من العقود اللازمة في ظروف اقتصادية معتادة ثم تتغير هذه الظروف التي قام عليها العقد بصورة لم تكن بالحسبان تجعل تنفيذ هذا العقد مرهقاً للمدين ومهدداً له بالخسارة، فهل يجبر هذا الشخص على تنفيذ هذا الالتزام مهما كانت درجة الخسارة وأياً كانت الظروف؟ أم أن هذا الالتزام يعدل إلى الحد المقبول بتوزيع الضرر أو بالفسخ؟ وهذا ما جاءت به هذه النظرية إذ أباحت للقاضي أن يتدخل في مثل هذه الحالات بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المقبول بتوزيع الضرر على المتعاقدين أو بفسخ العقد(99).
ثانياً: شروط نظرية الظروف الطارئة(100).
1- أن يكون العقد متراخي التنفيذ، أي أن هناك فاصل بين إبرام العقد وبين تنفيذه.
2- أن يكون التغيير الذي طرأ استثنائياً خارجاً عن حدود المألوف المعتاد.
3- أن يكون الظرف عاماً لا خاصاً.
4- أن يكون الظرف مما لا يمكن توقعه أو دفعه أو التقليل من آثاره.
5- أن يصبح تنفيذ العقد مرهقاً للمدين.
مقارنة بين نظرية الظروف الطارئة والجوائح عند المالكية:
بعد العرض السابق لمفهوم النظرية وشروطها، نجد أن الجوائح عند المالكية تشابهها في أمور وتختلف معها في أخرى وهي على النحو الآتي:
أوجه الشبه:
تتفق الجوائح مع الظروف الطارئة من حيث:
1- الأساس الذي قامت عليه، ألا وهو رفع الضرر الذي يلحق بأحد المتعاقدين نتيجة إبرام هذا العقد.
2- الشروط، فالعقد في الجوائح متراخي التنفيذ، والتغيير الحاصل خارج عن نطاق المألوف، وجاء هذا في اشتراط الثلث حيث اعتبر المالكية ما زاد عن الثلث في التلف تجاوزاً للحد الطبيعي المعتاد، والجائحة التي اصابت الثمر لا يمكن توقعها أو دفعها أو التقليل من أثارها، والحاصل من الجائحة أن تنفيذ العقد يصبح مرهقاً للمدين (المشتري).
أوجه الاختلاف:
تختلف الجوائح عن نظرية الظروف الطارئة من حيث:
1- عدم اشتراط العمومية في الحادث، فقد يكون الحادث في الجوائح حادثاً خاصاً بالفرد وحده دون غيره فلا يكون عاماً كما اشترطت النظرية.
2- معالجة آثار العقد، فقد أوجبت النظرية إزالة الإرهاق الموجود في العقد بأحد أمرين، إما بتوزيع الضرر بين المتعاقدين أو بالفسخ، أما الجوائح فقد حملت الضرر لأحد المتعاقدين وهو البائع.
بعد هذا العرض يتضح مدى علاقة الجوائح بنظرية الظروف الطارئة بل يمكننا القول بأن الجوائح تشكل أحد الأسس التي تبنى عليها نظرية الظروف الطارئة في الشريعة الإسلامية.
الخاتمة
بعد الانتهاء من كتابة هذا البحث توصلت إلى النتائج التالية:
1. تعرف الجائحة بأنها ما أتلف من معجوز عن دفعه عادةً قدراً من ثمر أو نبات بعد بيعه.
2. الجائحة عند المالكية تشمل فعل الآدميين والآفات السماوية وكل ما لا يستطاع دفعه.
3. ثبتت الجائحة بنصوص صحيحة من السنة لا شك فيها.
4. يشترط لوضع الجائحة أربعة شروط هي: أن يكون الثمر مستقلاً عن الأصل، وأن تبقى الثمرة ليتم طيبها، وأن تكون عوضاً عن بيع، وأن يكون مقدار الذاهب الثلث فأكثر.
5. تجري الجوائح في الثمار بشرط ذهاب الثلث أما في البقول وما جرى مجراها فلا يشترط ذهاب الثلث.
6. الجائحة التي سببها العطش توضع قليلة كانت أو كثيرة، ولا يشترط الثلث فيها.
7. المعتبر في حساب الثلث في الثمر الذي ييبس أو يحبس أوله على آخره هو ثلث المكيلة.
8. أما في الأجناس المختلفة فهناك طريقتان: الثلث أو القيمة.
9. شرط البراءة مفسد للعقد أو يعتبر الشرط لاغياً والعقد صحيح.
10. وسع المالكية من نطاق الجوائح فلم يقصروها على عقد البيع فقط فقد رأيناهم يعملونها في المساقاة والزكاة والمهر وغيرها.
11. تعتبر الجوائح من أهم الأسس التي تقوم عليها نظرية الظروف الطارئة في الشريعة الإسلامية.
(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، المجلد الثالث، العدد (2)، 1428 ه/2007م.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ