الحسنة في الميزان (أصحاب الأعراف)/ عبد الله قهبي

24 ديسمبر, 2019 - 23:54
عبد الله قهبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخوة في الله: لقد قص الله - تعالى - علينا في كتابه قصة أناس يقفون يوم القيامة على حجاب بين الجنة والنار، هذا الحجاب عبارة عن سور عال بين الجنة والنار سماه الله في كتابه بالأعراف يقف عليه رجال يرون من فوقه أصحاب الجنة وأصحاب النار، والسبب في وقوفهم على هذا السور وعدم دخولهم الجنة أو النار أن حسناتهم وسيائتهم قد تساوت؛ فلا حسنة رجحت بعملهم فيدخلوا الجنة ولا سيئة رجحت بعملهم فيدخلوا النار..

حسنة واحدة خلت من صحائفهم فمنعتهم من دخول الجنة، وسيئة واحده خلت من صحائفهم فمنعتهم دخول النار.

قال اللّه تعالى\": ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قالوا نعم، ثم يقول - سبحانه - \"وبينهما حجاب\" أي بين أهل الجنة والنار سور وهو ما سماه الله بالأعراف \" وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، \" أي على هذا الحجاب أو السور رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار بعلامات قيل إنها البياض والسواد في الوجوه..

ثم ينادي أصحاب الأعراف أهل الجنة \" ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم \" ثم يبين - سبحانه - أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد ولكنهم طامعون في دخولها فقال - سبحانه - \" لم يدخلوها وهم يطمعون \".

ثم يقول - سبحانه - \" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين؛ \" قال \" شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وَقَد يَفعَلُ العبد مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ, تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنجُو بِذَلِكَ مِن النَّارِ وَلَا يَستَحِقٌّ الجَنَّةَ بَل يَكُونُ مِن أَصحَابِ الأَعرَافِ \" الفتاوى (16/177).

ويقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: \" الناس إذا كان يوم القيامة انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم ترجح حسناتهم على سيئاتهم، فهؤلاء لا يعذبون ويدخلون الجنة، وقسم آخر ترجح سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء مستحقون للعذاب بقدر سيئاتهم ثم يخرجون إلى الجنة.

قال - تعالى -\" فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية \".

قال وقسم ثالث تساوت سيئاتهم وحسناتهم، فهؤلاء هم أهل الأعراف ليسوا من أهل الجنة، ولا من أهل النار، بل هم في مكان عالٍ, مرتفع يرون النار ويرون الجنة، يبقون فيه ما شاء الله وفي النهاية يدخلون الجنة، وهذا من تمام عدل الله - سبحانه وتعالى - أن أعطى كل إنسان ما يستحق، فمن ترجّحت حسناته فهو من أهل الجنة، ومن ترجحت سيئاته عذّب في النار إلى ما شاء الله، ومن كانت حسناته وسيئاته متساوية فهو من أهل الأعراف، \" \"لقاء الباب المفتوح\"

أيها الأخوة في الله: إن هذا المشهد الرهيب لأصحاب الأعراف لينبه العبد المؤمن من غفلته ويوقظه من رقدته، كيف لا وأصحاب الأعراف في موقف لا يدرون ما الله صانع بهم فيه قال تعالى\".وإذ صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين \".

الله أكبر كل ذلك جراء حسنة واحدة أهدروها، فلا إله إلا الله كم من حسنات أهدرناها، وكم من سيئات إقترفناها، يصلى الواحد منا فيقرأ بأقصر السور ويركع ويسجد ويكتفي في الذكر بأقل ما ورد، إهدارا للحسنات وهروبا من حصد الخيرات..

أو ما علمت أن إطالة القراءة وزيادة الذكر في ركوعك وسجودك وبعد صلاتك حسنات ترصدها ليوم معادك، فيا من تكتفي في ركوعك وسجودك بتسبيحة واحدة؛ إجعلها من الآن ثلاث أو خمس أو عشر حتى لا تقف موقف أهل الأعراف أو تسقط في النار مع من سقط لا قدر الله، هذا هو ميزان العدل عند الله - تعالى -إنه الميزان الدقيق قال - تعالى -\" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره \" ويقول - سبحانه - \" وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ, مِن خَردَلٍ, أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ\"..

ذرة من الخير كفيلة بإدخالك الجنة، وذرة من الشر كفيلة بإدخالك النار، وهذا يتطلب منا الحرص على الحسنة والحذر من السيئة أو التوبة منها، الواحد منا يصلي فرضه ونفله بأقصر السور لا يتعدى تلك السورة رغبة في سرعة الخروج من الصلاة، ولو علم أنه لو أطال القراءة في صلاته أو زاد تسبيحة في ركوعه أو سجوده عما كان يفعل لحصد بذلك عشرات الحسنات، ولو أحسن القراءة والذكر وتدبر معانيهما لتضاعفت حسناته إلى مئات الحسنات قال - تعالى -: \"مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنهَا \" [النمل: 89] وفسرها - سبحانه - بقوله \"من جاء بالحسنة فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا\" [الأنعام: 160].

ويضاعف الله بفضله وكرمه لمن يشاء إِلَى سبعمائة ضعف، لكن المضاعفة مبنية على حسن القراءة والذكر بالتدبر وعدم الاستعجال وعدم شرود الذهن قال - تعالى -\" وأحسنوا إن الله يحب المحسنين \" ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - \" واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهِ \"..

كم من أناس يهذون القرآن هذ الشعر دون تدبر؛ فهل يستوي من يتدبر ويقرأه بتمعن كمن يقرأه بلا تدبر، نعم قد يدرك حسنة أو حسنات لكن المتدبر والمتمعن والعامل بما يقرأ لاشك أن حسناته أكثر ولربما يكتب الله له في الحرف الواحد سبعمائة حسنة بحسن إخلاصه وتدبره، في حين أن غيره قد لا يتجاوز بضع حسنات، وهل يستوي من يقرأ أوراده بعد كل صلاة وفي الصباح والمساء بتمعن وتدبر كمن يهذها هذا دون تدبر أو تأن أو خشوع، إن الحسنة عزيزة فلا تفرط في كمها وكيفيتها.

عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه- تبارك وتعالى -قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري و مسلم..

فإذا استشعر العبد هذه المعاني السامية أفاضت على قلبه الطمأنينة والسكينة، والرجاء بالمغفرة، ودفعته إلى الجد في الاستقامة، والتصميم على المواصلة، بعزيمة لا تنطفيء، وهمّة لا تلين.

وكل سيئة يقترفها العبد تكتب سيئة من غير مضاعفة قال - تعالى -: [وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجزَى إِلا مِثلَهَا وَهُم لا يُظلَمُونَ] (الأنعام: 160) ومن تاب منها تاب الله عليه وأحبه وقربه، \" إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين \" روى الإمام مسلم في صحيحه قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: \" أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذاº فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناتهº فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطايا من ظلمهم فطرحت عليه ثم طرح في النار \"..

تأمل يا عبد الله قوله - عليه الصلاة والسلام - \" فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه \" فإن الواحد منا يحتاج أن يجتهد في كسب الحسنات حتى يبقى له منها شيء لسداد ما عليه من ظلم الناس، وكفى بهذا زاجراً للمؤمن أن يكف أذيته عن المسلمين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" كل المسلم على المسلم حرامº دمه وماله وعرضه \" وإذا كان الهم بالحسنة أو السيئة المجرد من الفعل يكتبه الملك على الإنسان فكيف بالفعل وهذا يدل على أن الملكين اللذين يكتبان ما يصدر عن العبد، يعلمان ما يجول في قلب العبد من الخير والشر، بإطلاع الله لهم على ذلك كما قال - سبحانه -: \" عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ, \"قال - تعالى -\" وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين، يعلمون ما تفعلون \" الطارق 12، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة لأن الهم نوع من الإرادة، وإرادته للحسنة طاعة، فيكتبها الله - جل وعلا - له من رحمته ومنه وكرمه، يكتبها له حسنة.

قال: فإن هم بها، فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف يعني: أنه إن هم بالحسنة فعملها، فأقل ما يكتب له عشر حسنات، وقد يصل ذلك إلى سبعمائة ضعف بحسب الحال، فإن المسلمين يتفاوتون في ثواب الحسنة، منهم من إذا عملها كتبت له عشر أضعاف، ومنهم من إذا عملها كتبت له سبعمائة ضعف، ومنهم مائتا ضعف، ومنهم من تكتب له أكثر من ذلك إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة، وهذا يختلف كما ذكرنا باختلاف العلم وتوقير الله - جل وعلا - والرغب في الآخرة ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة أجورا وكانوا أعظم هذه الأمة منزلة.

وقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: \"والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه \"، وهذا يختلف باختلاف حسن الإسلام وحسن اليقين وحسن العبادة، وإن هم العبد بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة \"ولكن بشرط أن يتركها خشية لله - تعالى -ورغبة فيما عند الله، فقد جاء في حديث آخر أنه قال - عليه الصلاة والسلام - قال: فإنما تركها من جرائي \" أي خوفا من الله، فمن ترك السيئة التي هم بها ولم يفعلها خوفا من الله فهذه تكتب له حسنة لأن إخلاصه قلب تلك الإرادة السيئة إلى إرادة حسنة، والإرادة الحسنة والهم بالحسن يكتب للعبد بها حسنة كاملة، أما من هم بالسيئة فلم يتمكن من فعلها بصارف غلبه عنها والنفس باقية في رغبتها بعمل السيئة فإنه تكتب عليه سيئة سواء كانت كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر حسب ما هم به العبد..

قال - تعالى -\" قل إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله \" وقال - صلى الله عليه وسلم - \" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه. قال العلماء: إذا تمكن المرء من أسباب المعصية، وصرفه صارف عنها، خارج عن إرادته، فإنه يجزى على همه بالسيئة سيئة، ويكون مؤاخذا بها بدلالة حديث: \"القاتل والمقتول في النار\" قال: وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة واحدة وهذا من عظيم رحمة الله - جل وعلا - بعباده المؤمنين أنهم إذا عملوا سيئة لا تضاعف عليهم، بل إنما يكتبها الله - جل وعلا - عليهم سيئة واحدة، وأما الحسنات فتضاعف عليهمº ولهذا لا يهلك على الله يوم القيامة إلا هالك لأن الحسنات تضاعف بأضعاف كثيرة، والهم بالسيئة إذا تركه العبد خوفا من الله تقلب له حسنة، والسيئة تكتب بمثلها، فمن غلبت سيئاته حسناته بعد كل هذا فهو الهالك الخاسر بحق، ومن رحمة الله - تعالى -وفضله وكرمه أن من تاب من جميع ذنوبه قبل أن يدركه الموت فقد وعده الله أن يبدل كل تلك السيئات إلى حسنات في صحائف أعماله، ولكن بشرط الصدق في التوبة..

وشروط التوبة الإقلاع عن الذنب والندم على ما فعل من المعاصي بحيث إذا تذكر تلك المعاصي تمنى من صميم قلبه أن لو كان لم يفعلها، وربما بتذكره لها يبكي على فعلها هذا هو حقيقة الندم، لا كمن يرتكب الحرام ثم يستغفر وفي نيته العودة للحرام مرة أخرى، كمن يتوب في أول النهار ويعود في آخره هذه توبة الكذابين، الذين قال الله فيهم \" يخادعون الله وهو خادعهم وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون \" ثم بعد ذلك الاقلاع الفورى عن المعصية والعزيمة الصادقة بعدم العودة إليها فإن ندم وأقلع وعزم عزيمة صادقة بعدم العودة إليها ثم بعد ذلك غلبته نفسه ووقع في الحرام بعد أن حقق بصدق شروط التوبة فليكرر التوبة مرات ومرات ولو عاد للمعصية في اليوم مائة مرة..

عباد الله: نحن مقبلون على شهر القرآن، خير الشهور وأعظمها بركة على المؤمنين شهر الصيام والقيام، الذي أنزل الله فيه خير وأحسن الكلام فقال - سبحانه - \" شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان \" فماذا نحن صانعون فيه كيف ستكون هممنا وعزائمنا وأوقاتنا هل سنهدر الحسنات تلو الحسنات، أم سنقضى الأوقات في حصد الباقيات الصالحات، إن صفحة واحدة يقرأها المسلم من القرآن ينال بها عشرة الآف حسنة لا تستغرق منه دقيقتان، فهل ستنظم وقتك في شهر القرآن وتجعل لنفسك وردا بعد كل صلاة تحصد ملايين الحسنات، وهل ستنصب قدميك للقيام والصلاة وسماع القرآن، أم ستكتفي بركعتين أو أربع أو تنصرف من الفرض متكاسلا عن النفل لتنصرف لمشاهدة المسلسلات والأفلام ومجالس غضب الرحمن، قال - تعالى -\" وبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه \" وقال - سبحانه - \" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد \"..