صراع القديم مع الجديد، مسألة قديمة ومتجددة، وما تزال حتى هذه اللحظة، وسنراها في المستقبل، فهي مسألة تنطلق في الأساس من تكوين الإنسان ورغبته في البحث عن الاستقرار وخوفه من المجهول حيث يكون الجديد بوابة إلى هذا المجهول.
بيد أن هذه الرغبة تظل محصورة عند فئة قليلة من البشر الذين غالباً ما ينصبون أنفسهم حراساً وفقاً لمقولة: "هذا ماوجدنا عليه أباءنا"، وبهذا التبرير يجد الكثير أنفسهم محاصرين بالحفاظ على القديم لانهم ألفوه واعتادوا عليه حتى صارت هذه العادة مقدسة لا يمكن الابتعاد عنها حتى ولو كانت خاطئة أو غير سليمة. ويمكن في هذا المقام استعراض بعض أمثلة الصراع بين القديم والجديد، ومدى خطورة هذا الصراع ومدى تقبله من عدمه.
القديم والجديد في الجانب الديني
ربما يكون الجانب الديني من أهم المناطق الذي يكون صراع القديم والجديد فيه بوابه لصراع عنيف داخل المجتمع، حيث يكون القديم هنا محروساً بحصانة مقدسة، لا يسمح في الاقتراب منها، لذلك بعد نزول الدعوة الإسلامية وقف المشركون أمام هذه الدعوة التي تعتبر تجديداً أمام الوثنية، وكان حراس الدين القديم يبررون وقوفهم وسبب رفضهم للجديد، بأنهم وجدوا آباءهم على هذا الحال، "أولو كان آباؤهم لا يعقلون" كما جاء في القرآن الكريم.
بيد أن العلماء بعد ذلك يضعون شروطاً للتجديد في الدين، ليفرقوا بينه وبين الابتداع المنهي عنه. ولكن في كل الأحوال، يظل صراع القديم والجديد في الجانب الديني أمراً ذا خطورة، حيث يترتب عليه الكثير من الأخطار والصراعات على جوانب أخرى.
في الجانب الاجتماعي
في الجانب الاجتماعي أيضاً يكون الصراع على أشده، ولكنه هنا لا يأخذ الخطورة القائمة في الجانب الديني، ويسمى هذا الأمر في علم النفس وعند علماء الاجتماع أحيانا بصراع الأجيال "فالمجتمع ككلّ يتغيّر دوما، وحركته لا تعرف التّوقف. وبين كلّ جيل وجيل نعرف يقيناً، أنّ تغييراً فكريّاً وتكنولوجيّاً وثقافيّاً يكون قد حدث.
ومن ثمّ فإنّه يكون أمراً طبيعيّاً أن يشعر كلّ من الآباء والأبناء أنّ الطّرف الآخَر غير مُحقّ في طريقة تفكيره، لأنّ كلا الطّرفَين غير قادر على التّكيُّف أو التّأقلُم أو مُقابلة الآخَر، على نفس السُّلَّم المعياري والأخلاقي والقِيَمي والثّقافي الذي يوجد الآخَر عليه. ومن ثمّ تبقى المُشكلة قائمة، بل وفي مرّات كثيرة وطبقاً لسرعة التّغيُّر والأزمات الاقتصاديّة وما يُصاحبها من ظواهر ومُشكلات اجتماعيّة وامور اخرى، تكون النّتيجة أن تزداد حدة المُشكلة.
حيث يكون هنا اختلاف في وجهات النظر وفي تقييم الأشياء والتعامل معها بين الجيل السابق والجيل الحالي، وغالبا ما يكون هذا الصراع داخل الأسر حيث يختلف الأبناء مع آباءهم، وتزيد خطورة هذا الأمر في حالات التحولات الاجتماعية المتسارعة لا سيما في عصرنا الحالي، حيث ظهرت فجوة كبيرة بين الجيل السابق والجيل المعاصر مع دخول العصر الرقمي والتطور التكنولوجي.
الصراع في الأدب
الأمر الآخر والذي نراه ظراهراً في حياة المجتمعات هو صراع القديم والجديد في مجال الأدب، الذي يتحول إلى صراع حاد يتمثل في صراع شكل تمظهر الأدب ومن ثم محتواه، على سبيل المثال عندما أراد العقاد أن يهاجم القديم ويحاول إبراز الجديد الذي يدافع عنه قام بالهجوم على رمز القديم آنذاك والمتمثل في شوقي وشعره.
بيد أن العقاد تحول إلى حارس للقديم بعد زمن عندما جاء الشعر الحر أو شعر التفعيلة، والمتمثل في جيل السياب والبياتي ودنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي الذي تحول هو الآخر إلى حارس شعر التفعيلة عند ظهور قصيدة النثر. وهكذا يستمر على هذا الشكل صراع القديم والجديد، حيث يظن الأديب أنه مصدر الأدب وأن هذا الشكل هو الأقدر على تمثيل روح الأدب من وجهة نظره، رافضاً التنحي عن سلطة الكتابة للأجيال المقبلة.
في الجانب الخدمي
ربما يكون هذا الجانب هو الأكثر تصالحاً بين القديم والجديد، حيث يتنازل القديم للجديد بكل سهولة ومن دون أي صراع، عدى بعض الصراعات المتمثلة في رغبة بعض البشر في الاحتفاظ بالمصالح التي يكتسبونها من مجالهم عبر التقنيات القديمة. ولكن بشكل عام نشاهد كيف تعمل التقنيات الحديثة في تسهيل حياة الناس ويتقبلها البشر بكل ترحاب من دون أي اختلاف أو صراع يذكر.
وهكذا يمكن القول إن البشر يتقبل الجديد ويستسلم له حين يكون ملموساً ومادياً ويرتبط بخدمته وتسهيل حياته، ولكنه في الوقت نفسه يخافه ويتصارع معه حين يرتبط بالجانب المعنوي، وكلما زادت معنويته أو رمزيته زادت صعوبة الجديد في البحث عن مكانه في ظل سيطرة القديم.
"تايم لاين "