حاصرتها الكثير من القيود النابعة من العادات والتقاليد الاجتماعية، جعلت مشاعرها حبيسة الأعماق، تشبه البركان في غليانه الصامت.. هكذا بدت المرأة الموريتانية عبر تاريخها، حيث كان اللقاء والتواصل مع الحبيب، ما هو إلا حلماً صعب المنال، لتظل مشاعرها حبيسة بداخلها، حتى تنفجر من خلال الكلمات، التي سميت فيما بعد بـ"التبراع".
و"التبراع"، كلمة محلية تعني باللهجة الحسانية، تغزل المرأة بالرجل، ويأتي في بيت شعري واحد، حيث لا توجد في التبراع أي قصائد، وتعبر المرأة من خلال تلك الكلمات عن أشواقها، وتفرط في وصف مفاتن حبيبها في أحيان أخرى. ويعرف موقع "الموزون الموريتاني" والمختص في الأدب الشعبي، التبراع بأنه: "أدب نسائي مليء بالعاطفة والشوق، ويمكن القول بأنه يكون دائماً في غرض الغزل لتحدثه عن المحبوب برقة".
ويمثل التبراع جزءاً من الثقافة الحسانية، فهو شعر منظوم تبدعه النساء الحسانيات تغزلاً بالرجال، وبعيداً عن أعينهم، ويتميز بالاقتضاب والكثافة والقصر.. ذلك وفقًا للباحث في الثقافة الحسانية، إبراهيم الحسين، الذي أشار إلى أنه يكون دائماً دون قواف إجبارية، ولكن مع صرامة في التقطيع الداخلي، كما يمتاز بالوضوح والبساطة التي لا تخلو من صور بلاغية.
قديماً وحديثاً
وتفضل بعض النساء، التبراع القديم، في حين تفضل الفتيات المعاصرات الجديد، حيث كان قديماً يجري في شعاب الأودية، وعلى الكثبان الرملية، كما كان يمتاز بالحشمة، وتطغى عليه الرمزية والغموض.
بينما حديثًا وظف التبراع المواقف والأحداث التي طرأت على الحياة، متضمناً تعابير معاصرة وقضايا راهنة، مثل التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ما دعا بعض الشاعرات للتغني برجال بعيدين عن المجتمع الموريتاني، سواء الرؤساء والزعماء السياسيين، وحتى أبطال المسلسلات.
الشعر السري
ولا تخلو الذاكرة من أبيات الشعر والقصائد، التي تتغنى وتغازل المرأة وجمالها، وقليلة ونادرة تلك المعبرة عن الغزل في الرجال. ولكن في موريتانيا وجنوب المغرب، فإن المرأة هي من تتغزل بالرجل، حيث ينتشر فن "التبراع" بين النساء الموريتانيات، وهو ما أرجعه الباحثون إلى القيود الاجتماعية التي كانت مفروضة على المرأة في موريتانيا.
وربما لولا تلك القيود التي فرضها المجتمع الموريتاني على المرأة، ما كان ليظهر ذلك النوع الفريد من التعبير عن الحب، والمشاعر الدفينة ولوعتها بالرجل، حيث كان الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها المرأة العاشقة لبث أشواقها والفيض بمشاعرها ووصف وسامة حبيبها.
وغالباً لا تذكر المرأة في التبراع اسمها أو اسم حبيبها، مكتفية فقط بالتلميح والإشارة، بينما تتكلف صديقاتها بنقل ما تفوهت به من كلمات إلى مجلس نسائي، أو ترسله هي إلى حبيبها.
عندما تغازل المرأة
"إذا اضطرت المرأة للتعبير عن حالات نفسية ذات صبغة حميمية، فإنها تتخذ السرية والحديث خلف الستار وسيلة للترويح عن آهاتها الغرامية".. حسب الناقد الموريتاني، الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله، الذي أشار إلى نماذج مختلفة من التبراع، التي أبدعت فيه المرأة الموريتانية، ويرى أن أصل كلمة التبراع، تحريف لكلمة "الترباع" وهو ما يشير لعلاقة تاريخية بين اسم هذا الغرض الشعري في موريتانيا، واسمه في المغرب مثلاً حيث يسمى الرباعيات.
ومن تلك النماذج التي تأتي على عكس القصيدة الشعرية، حسب سيدي عبد الله، حيث ترد في بيت شعري واحد، لا يتجاوز السطرين، وتنقل تراكماً من الوجد والشوق في كلمات بسيطة ومعان مكثفة. ومنها ما يعبر على عدم استطاعة المرأة الصبر على فراق حبيبها قائلة: "ما نكدر نصبر.. أشهر شهرين اثلت أشهر".
ومن النماذج التي تظهر المرأة مشاعرها: "لا ترفد عني.. حمة ذ السقم الماكني"، ما يعني إنها أصيبت بالحمى من شدة الشوق إلى حبيبها، وكذلك "من متن البي.. وسيت الدشره باديه"، ما يشير إلى شدة عشق الفتاة لحبيبها، إلى الدرجة التي تعد تميز فيها بين المدينة والبادية.
ووصفت المرأة في موريتانيا وسامة حبيبها، قائلة: "عندو تبسيمة.. تحيي العظام الرميمة"، قاصدة أن ابتسامة حبيبها يمكنها إعادة الحياة في العظام الرميمة، كما غازلت المرأة جمال الرجل بقولها: "شفت في الكوة.. كشيت أنو تمرة أحلو".
العشق دون حجاب
ويتفاخر الكثير من الموريتانيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بما يطلق عليه التبراع، كونه نمط شعري اختص المرأة الموريتانية، تغزلًا في محبيهم، ويعتبرونه إفصاحاً علنياً وتحولاً في الأدوار، بعد أن كان سرياً وخجولاً، الآن صار التعبير عن عشق الرجال دون حجاب.
وتنوعت منشورات رواد "فايسبوك"، سواء موريتانيون أو من جنسيات أخرى، ما بين التشدق بنماذج من التبراع، أو الحديث عن احساس المراة الراقي، وكذلك أحد الأمور الخاصة بالمرأة دون الرجل.
ويرى علي محمد على صفحته بموقع "فايسبوك" أن "التبراع فن خاص بالمرأة، لا يصح أن يتناوله الرجال، فشأنه شأن المكياج وما تستخدمه النساء". ويصف ادومو ول غالي، التبراع بأنه أدب انساني رفيع، كما يعد أجمل ما فيه هو صدق العاطفة، وهو ما استطاعت المرأة من خلاله أن تقود ثورة وتؤسس أدباً راقياً.
وكتبت حنان محمد سيدي، عبر صفحتها الشخصية، نبذة مختصرة عن التبراع، ودوره في حياة المرأة الموريتانية. بينما رأى الربيع ادوم، أحد رواد موقع التواصل الاجتماعي، أن "انتشار التبراع عبر مواقع التواصل، من المزايا العظيمة، لكنه يفقده طابعه الأول الذي منحه الخصوصية كتعبير استثنائي".
تايم لاين