ذات يوم تلقى الدكتور محمد عابد الجابري اتصالاً من أحد تلامذته الموريتانيين يخبره أنه عثر على ما يشبه الكنز، كان التلميذ يعرف هوس أستاذه بكل ما يتعلق بالفيلسوف ابن رشد الأندلسي، وإذا به يخبر الجابري بأنه وجد كتاباً لابن رشد على شكل مخطوطة نادرة في مكتبة أهلية تدعى «مكتبة أهل الشيخ سيديا» في جنوب موريتانيا، وفي مدينة بوتيليمت تحديداً، أعلن الجابري خبر العثور على تحفة ابن رشد التي ألفها في اللغة والنحو تحت عنوان «الضروري في صناعة النحو»، فبات المخطوط الوحيد من نوعه، مطلباً لكل عاشق للمخطوطات العربية النفيسة، فاستطاع مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث الحصول على نسخة مصورة من ذلك المخطوط النادر القيم.
قصة المخطوط النادر ذاك تضعنا أمام جملة من الأسئلة تتعلق كلها بالبحث عن أثر ثقافي نفيس، قد يكون له أعمق الدلالة والتأثير في حاضرنا على مستوى تصحيح بعض المعارف التي كانت لدينا، أو تأسيس معارف جديدة.
إذا كان العثور على مخطوط ابن رشد في عمق الصحراء يشكل فتحا مبينا في مجال الثقافة العربية عند دارسي التراث والمخطوطات، فكم من عالم آخر، ومفكر، وكم من كتاب رائع، ومعرفة ثرية طمرتها رمال الصحراء الممتدة آلاف الكيلومترات، أو أثرت عليها عوامل المناخ القاسية هناك فاندرست، أو تعاورتها أيد لا تقدرها حق قدرها، فانتهى بها الحال مرمية في إهمال لا يليق بالمعرفة كقيمة إنسانية ثمينة؟.
كل تلك الأسئلة هي مناط بحثنا في كم المخطوطات التي توجد في حدود منطقة الصحراء الكبرى والساحل، وفي أطراف إفريقيا ونهاياتها الغربية.
تتفق أغلب المصادر البحثية على أن تلك المنطقة باتساعها الجغرافي الهائل تمتلك مخزونا مهما من المخطوطات العربية النفيسة، وأغلبها يوجد في مكتبات أهلية، قد لا تتوفر لها بحكم الطبيعة الجغرافية الصحراوية القاسية وسائل الحفظ التي تمكن من إبقاء المخطوط في حالة جيدة، والاستفادة منه عند توفر من يملكون القدرات التقنية والعلمية لذلك.
ففي موريتانيا تأسست المكتبات الأهلية بعد انتشار الإسلام ودعوة دولة المرابطين للعلم والقراءة والتعليم، ثم جاءت مرحلة مكتبات المدن القديمة والتي تأسست ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الهجريين، ومن أشهرها مكتبات شنقيط ومكتبات وادان اللتان ضاع الكثير من مخطوطاتهما بسبب سقوط الأبنية بفعل عوامل الزمن، وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت مئات من المخطوطات النادرة والنفيسة، محفوظة في الصناديق وفي البيوت الخربة والمهجورة تتردى في ظروف حفظ سيئة وغير مرتبة، وأكثر مخطوطاتها من دون تجليد كما يقول مؤلف «فهرس مخطوطات شنقيط وودان» الباحث أحمد ولد محمد يحيى.
أما بالنسبة لبقية المكتبات فهناك مكتبات تيشيت التي يقول الدكتور والمؤرخ محمد المختار ولد السعد في كتابه «نوازل حمى الله التيشيتي» الصادر عن دائرة القضاء في أبوظبي، إنها ما زالت تتحدى عوادي الزمن وتقف شاهدا على ما عرفته المدينة من إشعاع ثقافي، وتحتضن اليوم - كماً وكيفاً- أهم مخزون وثائقي تحتضنه مدينة تاريخية موريتانية، ويقدر الدكتور السعد عدد المخطوطات في مكتبات تيشيت بحوالي عشرة آلاف مخطوط موزعة على 16 مكتبة أهلية، ويضيف قائلا إن مركز جمعة الماجد بدبي صور منها مؤخرا قرابة 4000 مخطوط.
ورغم الجهود المبذولة من طرف المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ومن قبل مؤرخين وباحثين كالدكتور ولد السعد، والدكتور الراحل رحمه الله جمال ولد الحسن، والدكتور عبد الودود ولد عبد الله، وعالم الانتروبولوجيا المقيم في فرنسا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ، والدكتور يحيى ولد البراء، وغيرهم، من أجل تحقيق وضبط تلك المخطوطات بالتعاون مع هيئات بحثية في الإمارات وفي فرنسا وأمريكا والسويد وغيرها، فإن كل ذلك ما زال لا يمكن من انتشال آلاف المخطوطات من مصيرها المحكوم بالفناء دون اطلاع العالم عليها واستفادة العرب منها.
نفس المصير تلقاه من جهة ثانية وبحكم نفس الطبيعة الجغرافية والتوزع الأهلي للمكتبات آلاف المخطوطات في بلدان كمالي والنيجر والجزائر وغيرها.
ومن خلال بحث أعده الباحث سالو الحسن من النيجر وبين فيه أن وجود المخطوطات في إفريقيا الغربية يعود إلى دخول الإسلام وانتشاره فيها، منذ فجر الدعوة الإسلامية، حيث كانت اللغة العربية هي لغة التخاطب والعمل وأكد سالو أن عدد المخطوطات في النيجر بعد فهرستها بالتعاون مع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن وصل إلى 4 آلاف مخطوط عربي.
وفي مالي المشهورة بمدينتها الحافظة للتراث تمبكتو، هناك أيضاً عدد هائل من المخطوطات، ويقول سالو في بحثه ذاك إنه لا يمكن الحديث عن المخطوطات العربية في إفريقيا دون التطرق إلى المخطوطات الموجودة في مالي، وخاصة في مدينة تمبكتو، التي تحتوي على مجموعة تقدر بعشرة آلاف مخطوط، أكثرها بالعربية، وأخرى باللغات المحلية، وهي التي يطلق عليها اسم المخطوطات العجمية.
وتعاني تلك المخطوطات الثمينة من نفس المشاكل التي تعاني منها نظيراتها في موريتانيا والمنطقة، حيث إن بعضها محاط بهالة خاصة من القداسة عند مالكيها من الأهالي بحيث لا يسمحون للباحثين بالتعامل معها والإفادة منها، وكذلك فهي مهددة بالعوامل الطبيعية كالعواصف الرملية، والنمل الأبيض، لذلك فإن بعضها الآن ممزق، وبعضها أيضا مهدد بآثار الرطوبة، ومتآكل الأطراف، أو مبتور البداية أو النهاية، أضف إلى كل ذلك ما تعرضت له مخطوطات تمبكتو من السرقة والنهب أثناء حكم تنظيم القاعدة الإرهابي للمدينة.
وفي انتظار أن يبرز إلى العلن فجأة وفيما يشبه اكتشاف حجر رشيد، مخطوط آخر متفرد يوازي ويعادل قيمة مخطوط «الضروري في النحو» لابن رشد، أو يفوقه، تبقى أيدي المحبين للعلم والمعرفة، والمهتمين بالتراث لأغراض القراءات الانتروبولوجية أو السوسيوثقافية، يضعون أيديهم على قلوبهم، وهم يخشون أن يستيقظوا فجأة على خبر فقدان كنز ثقافي كان مطمورا تحت ذهنية الاستحواذ الأهلية، ومن دون أن يمتلك مقومات الحفظ التقنية والثقافية.
محمدو لحبيب : الشارقة
الخليج الاماراتية