الدراما الموريتانية.. وقصة الأعباء الثقيلة

7 يناير, 2019 - 11:20

تعتبر الدراما من بين أدوات التعبير المثلى في المجتمعات التي بلغت درجة متقدمة من نضج الوعي الثقافي، والتي تمتلك هامشا كبيرا من الحرية تمنح بموجبه لأفرادها فرصة التعبير الحر عن ما يدور في خلجاتهم وأن يستخرجوا مكنوناتهم ومكبوتاتهم، وأن يفجروا إمكاناتهم الكامنة، وأن يضعوا كل ما في المجتمع من أمراض سيكولوجية واجتماعية على محك النقد والتقويم بعيدا عن المداهنة والتملق أيا كانت بواعث.

ولكن ليس معنى ذلك أن المطلوب من الدراما تجاوز حدودها الشرعية، بل المطلوب هو أن تكسر بادئ ذي بدء الأغلال فحسب وأن تتجاوز حواجز الفوبيا التي طالما تملكت قلوب السينمائيين جراء إعدادهم وإخراجهم لبعض المسلسلات والأفلام، بل المطلوب أن لا تكون الدراما أداة طيعة تستجيب لطلب من يريد تقليم أظافرها بقسوة ويكسر أجنختها، ولا أن يظل ديدنها المحاذرة والابتعاد عن كل ما يقدسه المجتمع من أوهام دون أن يفلح في تقديم الأدلة الساطعة على مصدر قدسيتها، ولا أن تكون أيضا بمثابة تجسيد فعلي لأفكار مموليها.

تلك بعض القواعد التي ينبغي للدراما في أي قطر أن تتمثلها، ولكن بما أنني هنا أبتغي الحديث عن الدراما الموريتانية حصرا فإنني سوف أحاول رصد مدى تطابق محتويات الدراما الموريتانية مع هذه المبادئ التي ذكرناها آنفا، فعلى الرغم من أن الدراما الموريتانية قد بدأت بوادرها في منتصف القرن الماضي إلا أنها لا تزال تعاني من مشاكلة جمة تعوق تقدمها، إذ لم تستطع عبر تاريخها إنتاج عمل سينمائي يستأثر باهتمام الرأي العام العربي على الأقل بحيث يكون اقتناءه أمرا ملحا لقيمته الفنية، وإنما لا زالت للأسف قابعة قانعة بين أروقة الواقع المحلي مذعنة لإكراهاته.

ومرد ذلك إلى أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها عقلية المجتمع التي تشكل عبئا ثقيلا يتشبث بخيال القائمين عليها ولا يمنحهم الفرصة للتعبير ولا يوفر لهم الفضاء المناسب والخصب لرواج أعمالهم السينمائية، يضاف إلى ذلك أن الدراما الموريتانية نشأت نشأة مرتبكة حين بدأت منصرفة إلى الاهتمام بقضايا ترفيهية واسكتشات ساخرة لا يلتفت إليها إلا القليل من الناس، إلا أن تلك البداية أثرت كثيرا على مسيرتها حين ارتبطت السينما عند الكثرة الساحقة من الناس فيما بعد بالترفيه والتهريج، وعليه أصبحت كلمة سينما مقرونة دائما بالتهريج الفكري والقضايا الهامشية.

والسبب الثاني الذي يجعل خطى الدراما الموريتانية متخاذلة مقارنة مع غيرها يكمن بالأساس في أنها تعاني من شح في دور الإنتاج فضلا عن عدم وجود قناعات راسخة لدى رجال الأموال والميسورين بفكرة الإستثمار في السينما أو دعمها على الأقل، وذلك ناتج عن الثقل الذي تمثله عقلية المجتمع ونظرته للتمثيل والممثلين ولا سيما الممثلات النساء اللواتي يعتبرن عنصرا لا غنى عنه في أي عمل، فالمجتمع الموريتاني يضع رزمة من العوائق أمام مشاركة المرأة في التمثيل ويعتبر ذلك جرأة لا تغتفر رغم سماحه لها بولوج مجالات لاتبتعد كثيرا عن العمل السينمائي.

وهذا ما يفسر عدم وجود ممثلين، إذا لا يوجد منهم إلا أشخاص قد قذفت بهم رياح الهوايات الشخصية بعد أن يكونوا قد رموا بعلاقتهم بالمجتمع عرض الحائط وخلعوا وصايته، قد لا يكون هذا أمرا عاما لكنه ما يحدث في الغالب. ولا شك أن النقص الحاصل في الممثلين يشكلا عائقا كبيرا أمام الدراما الموريتانية، فنقص الممثلين يفضي إلى أن يتكرر الممثل الواحد في مَشاهد متعددة مما يجعل المُشاهد يشعر بامتعاض شديد ويخيل إليه أنه لا يشاهد إلا مسلسلا واحدا بتسميات متعددة.

ولكن على الرغم من هذه العوائق الجمة التي ذكرت آنفا لا يعوزنا وجود بعض الإنتاجات السينمائية الموريتانية التي لقيت استحسانا منقطع النظير على المستوى المحلي، والتي نذكر منها على سبيل المثال لا للحصر مسلسل وجوه من خشب، ومسلسل أحلام مواطن ومسلسل البيت السعيد، وقد شكلت هذه المسلسلات وغيرها نقطة جدب مركزي للمواطن الموريتاني ولا سيما الشباب والنساء، وما ذلك إلا لكونها تطرح بعض القضايا الاجتماعية على المحك وتعالج غوغائية بعض العادات والتقاليد التي تمس كينونة الإنسان الموريتاني، هذا على الرغم من قصر مدة حلقات هذه المسلسلات التي تتراوح بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة.

لكن على الرغم من وجود بعض الأعمال المهمة فإن الدراما الموريتانية ظلت محصورة في نطاق ضيق ولم تأخذ على عاتقها ضرورة طرح ومعالجة بعض القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى والتي تعتبر أكثر إلحاحا في المجتمع الموريتاني والتي لاتنفك تكتب أمامنا في المشهد اليومي بالمداد الأحمر كما يقول المفكر محمد المختار الشنقيطي، من قبيل التمييز العرقي الذي ينخر جسم المجتمع، والعبودية بشتى أشكالها تقليدية كانت أو عصرية والتي أصبحت من فترة غير قليلة لازمة ترددها بعض الحركات الحقوقية والأحزاب السياسية المرموقةعلى اعتبار أنها تشل حركة التنمية في البلد.

إن الدراما الموريتانية تنقصها الجرأة الكافية التي تخولها طرح القضايا المسكوت عنها، وقرع الأبواب الموصدة أمام الأوهام والتراهات التي يعتبر تقويضها إذانا بميلاد فكر جديد يقطع مع الماضي في جانبه المعتم لإظهار جانبه المضيء، لا أن تظل حبيسة إملاءات الشارع والسلطة السياسية والاجتماعية.

والمأخذ الآخير على الدراما الموريتانية بالنسبة لي هو مأخذ على الدراما العربية بشكل عام، وهو تخليها عن اللغة العربية الفصحى في الإنتاج السينمائي لصالح لهجات محلية أثبتت بالتجربة أنه ليس في مقدورها أن تفي بمهمة التواصل والتخاطب أحرى أن تحمل في طياتها مضمونا فكريا يشرِّح الأعطاب الثقافية للمجتمعات ويعالجها.

إن هذه الأفكار سابقة الذكر لا تعدو كونها غيرة على مستقبل الدراما الموريتانية وأمل في دخولها إلى حلبة الصراع العالمي، وهذا ما نأمله لا سيما في ظل صعود وجوه شابة جديدة من الجنسين ما يعني انفراج أجنحة الوصاية الاجتماعية والسياسية شيئا ما عن الدراما.

محم ولد الطيب

أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي