صراع العروش الموريتاني

5 يناير, 2019 - 11:51

في السادس من أغسطس/آب عام 2008 قبل عقد كامل وعبر الإذاعة الموريتانية الرسمية، كان بإمكان الموريتانيين في نواكشوط وغيرها من المدن الموريتانية الصحراوية الإصغاء لقرار جمهوري -حمل ختم الرئيس "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله"- قضى بإقالة مجموعة من جنرالات الجيش الكبار، بينهم قيادات الأمن الوطني والحرس الرئاسي وضباط آخرون من مؤسسات مختلفة، وبالرغم من أن ذلك الخبر قد هزّ أرجاء موريتانيا الهادئة منذ وصول "ولد الشيخ" إلى القصر الرمادي عبر صناديق الاقتراع قبل عام واحد فقط، فإنه وعلى الأرجح لم يفاجئ الموريتانيين بشكل كامل، من تابعوا منذ أشهر وقتها صراعا يدور في الكواليس بين البرلمان الذي يحظى الجيش بنفوذ واسع فيه، والحكومة التي شكّلها "يحيى ولد أحمد الوقف" الوزير الأول، وأحد المقربين من "ولد الشيخ" آنذاك. [1]

بمرور عدة ساعات على قرار الرئيس، تواردت إلى الموريتانيين أنباء متضاربة عن رفض الجنرالات المذكورة قرارات العزل ومحاصرتها القصر الرمادي واعتقال "ولد الشيخ"، تزامنا مع إغلاقها المطارات وسيطرتها على مقار التلفاز والإذاعة الرسمية، قبل أن يكون بإمكان الموريتانيين جميعا وفي وقت قليل التأكد من ذلك كله وهم يتابعون شاشات التلفاز الوطني الذي عرض بيانا عسكريا أعلنت فيه مجموعة من الضباط، حملت اسم "المجلس الأعلى للدولة"، سيطرتها على الحكم، في وقت بدا فيه للجميع أن قائد الحرس الرئاسي ومجلس موريتانيا المذكور نفسه "محمد ولد عبد العزيز" جنرال موريتانيا القوي بطل الانقلاب الناعم وحجر زاويته الأثير[2].

 

وبانتخابات قاطعتها أغلبية قوى المعارضة، أتت الشهور التالية موزعة المواقع الموريتانية العليا بإتقان، فعاد "غزواني" -أحد داعمي الانقلاب وقائد الحرس الوطني قبل أن يقيله ولد الشيخ- في منصب أقوى كقائد أركان للجيش، وتسلم "مولاي ولد محمد الأغظف" أحد المقربين من "ولد عبد العزيز" منصب الوزير الأول، في وقت حصل فيه الجنرال القوي -ولد عبد العزيز- نفسه على الرئاسة تاركا الساحة خالية من الخصوم أو المنافسين [3].

ولتبديد الصورة الظلامية التي حامت حول حكمه وتغذت على محاولاته غير الخافية لإعادة إنعاش سلطة الجيش، سعى الجنرال لكسب تأييد الحلفاء الإقليميين والدوليين وعلى رأسهم فرنسا وواشنطن والمغرب، والتفت لكسب المغرب الحساسة تجاه جبهة البوليسارو في الصحراء الغربية بتأكيده عدم دعم موريتانيا لجبهة البوليساريو، قبل أن يشن عمليات عسكرية ضد "تنظيم القاعدة" على الحدود الشرقية لموريتانيا بالتنسيق مع حملة "سيرفال" الشهيرة التي أطلقها الجيش الفرنسي ذلك الحين، قبل أن تتجاوز دولته الأمنية رياح الربيع العربي بهدوء، في وقت خيّمت فيه سحابة الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الانقلاب في الأفق عام 2014 [4]

على عكس الانتخابات الأولى الحذرة، وبالرغم من تنامي نفوذ المعارضة هذه المرة فإن "ولد عبد العزيز" تمكّن من الفوز بها بسهولة، لكن ذلك الفوز لم يُنسِه صعود المعارضة جاعلا من فتح قنوات حوار مع المعارضة أولوية ولايته الجديدة، وهو حوار بلغ ذروته عام 2016 دون اتفاق، ليقرر الرئيس الموريتاني في العام نفسه نقل مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين النافذين إلى الظل بعد أن حاولوا صناعة نفوذهم الخاص، بينهم "الأغظف" نفسه، و"محمد محمود ولد محمد الأمين" سفير موريتانيا في السعودية بعد تدخله في صفقات اقتصادية بين جدة ونواكشوط حتى عام 2017، عام كثر فيه ظهور "ولد عبد العزيز" بغير مناسبة وبشكل غير مفسر -حتى ذلك الحين- على الشاشة الرمادية العريضة[5].

طوال العام الماضي، وبالتوازي مع انتعاش "حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" المعروف باسم "تواصل"، النسخة الموريتانية من جماعة الإخوان المسلمين، وتشكيل المعارضة تحالفها الشهير المسمى بـ "المنتدى الديمقراطي"، اعتاد الموريتانيون ظهور "ولد عبد العزيز" بشكل متكرر على وسائل إعلام عربية وفرنسية محاولا تبديد شكوك المعارضة حيال نيته الترشح لولاية ثالثة، وذلك قبل أن يطرح تعديلات دستورية تضمّنت إلغاء محكمة العدل السامية، وهي المحكمة الوحيدة القادرة على مساءلة رئيس الجمهورية الموريتاني، واستبدال مجلس الشيوخ ذي الطابع القبلي الشرفي بمجالس لامركزية تكنوقراطية أو مجالس "جهوية" كما يحب الموريتانيون تسميتها، وبالفعل وجدت التعديلات طريقها للتطبيق مع تصويت الموريتانيين بالأغلبية عليها، في وقت كثّف فيه العديد من جنرالات الجيش الأقوياء ظهورهم الإعلامي ببزات سياسية مُرسلين رسائل لا تخفى على أطراف المعارضة، وعلى رأسهم "الشيخ بايه"[6].

كان بإمكان الموريتانيين رؤية "الشيخ ولد أحمد ولد بايه"، العقيد المتقاعد والمهيمن على ملف قطاع الصيد كأحد أهم قطاعات الاقتصاد الموريتاني، وهو أحد الذين ترجعُ أصولهم إلى المنطقة الشمالية التي لطالما احتكرت القصر الرمادي الرئاسي، وتربطه علاقة عائلية بشخص الرئيس، كان بإمكانهم رؤيته على غير عادته يتنقل بين المدن مشاركا في نشاطات استهدفت الطبقات المهمشة، بشكل مشابه لما كان يقوم به "غزواني" أحد صانعي الرئيس القدامى وداعمي انقلابه، وفي ظل تحركات كل عسكر الرئيس، ارتقت أنظار الموريتانيين لمتابعة السباق الدائر نحو القصر الرمادي في الانتخابات القادمة، والصراع الذي يدور في الكواليس حول الوريث القادم لتركة الرجل المغادر.
دليل الجنرالات للرمادي

يُمثّل الصراع الحالي بين العسكريين حول القصر الرمادي تذكيرا دائما بطبيعة صراع لطالما دار بينهم، تاركا أثره على منصب الرئاسة الموريتانية وعلى تصحُّر المشهد السياسي بشكل أعم. وبالرغم من أن ميلاد هذا الصراع في بلد لطالما غيّبته مشاكله الداخلية عن المشهد العربي منذ ثمانينيات القرن المنصرم، فإن تتبعَ المجريات التي حملها العقد الأول من القرن الحالي كافٍ لفهم الصراع القائم، حيث كانت البداية تحديدا في الثالث من أغسطس/آب 2005، يوم كانت موريتانيا محكومة بالحديد والنار من قِبل الجنرال "معاوية ولد سيدي أحمد الطايع"، منذ أن انقلب عام 1984 على سلفه "محمد خونة ولد هيدالة" برعاية فرنسية[7].

بالطريقة نفسها التي انقلب الطايع بها على "هيدالة" مغتنما وجوده خارج البلاد للسيطرة على الحكم، وفي وقت كان فيه الطايع في السعودية يعزّي بوفاة الملك "فهد بن عبد العزيز"، قام الجنرال "علي محمد ولد فال" وبتنسيق مع كل من "غزواني و"ولد عبد العزيز"، قادة الحرس الوطني والرئاسي آنذاك، بانقلاب عسكري أعلن فيه السيطرة على مؤسسات الحكم وتشكيل "المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية" والذي مَثّل خليطا من الجنرالات وأصحاب البذلات السياسية، وظل كقائد للبلاد خلال مرحلة انتقالية امتدت عامين، قبل أن يسلِّم السلطة لـ "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله"، الخبير الاقتصادي المخضرم وأول رئيس منتخب في أبريل/نيسان 2007، بمساندة من كبار الجيش أنفسهم الذين قام "ولد الشيخ عبد الله" العام نفسه بترقيتهم لرتبة جنرال، وتحديدا كلًّا من العقيد آنذاك "ولد عبد العزيز" والعقيد "غزواني"، وهي الرتبة الأعلى في الجيش الموريتاني، مؤسسا لحقبة عسكرية أخرى ستطيح أول ما تطيح به مباشرة [8].

لطالما سعى "ولد الشيخ" منذ وصوله إلى القصر الرمادي لكسر التفاوت وإنعاش نفوذ المناطق الشرقية داخل الدولة وخصوصا داخل مؤسساتها الأمنية، بالنظر إلى كونه ينتمي إلى المنطقة الشرقية التي عانت تهميشا خلال حكم جنرالات الشمال، وهي مساعٍ تعارضت مع طموحات جنرالات الجيش الذين يتغذّون دوما على احتكار قبائل الشمال للنفوذ السياسي والأمني والاقتصادي في الدولة الأفريقية الفقيرة.

لأجل ذلك، لم تهدأ جهود "ولد الشيخ" للخروج عن وصاية المؤسسة العسكرية وتقليص نفوذ جهازيها الأثيرين "الأمن الرئاسي" و"الأمن الوطني" داخل الحكومة، فقام بإحضار وجوه جديدة إلى مقاعد الحكومة مَثّلت تيارات المعارضة الإسلامية واليسارية عصبَها الرئيس، وذلك بعد تكليف "يحيى ولد أحمد الوقف" أحد المقربين منه مهمة تشكيل تلك الحكومة، مُطلقا بذلك جرس إنذار لدى النواب الذين شعرُوا بالخطر بعد حرمان حلفائهم التقليديين في الحكومة والمناصرين للجيش من الوصول إلى حقائب وزارية مؤثرة، قبل أن يهددوا بشل الحركة الدستورية عبر تعليق مهامهم في البرلمان، تهديد بادله "ولد الشيخ" بالتهديد بحل البرلمان كله، قبل أن يضطر للتراجع ويرضخ لضغوط جنرالات الجيش ويحلّ الحكومة كاملة، فيما بدا وكأنه العلامة الأولى الدالة على الأفول شديد السرعة على شمس الرئيس المنتخب[9].

في القصر الرمادي، كانت الخيوطُ تشيرُ بوضوح إلى دور لعبه "غزواني" و"ولد عبد العزيز" في تمرد البرلمان، لذا وفي أغسطس/آب عام 2008، وبعد ساعات من قرار رئاسي قضى بإقالة الاثنين وآخرين من مهامهم، قاد "ولد عبد العزيز" انقلابه العسكري ضد "ولد الشيخ" معلنا تشكيل "المجلس الأعلى للدولة" على أن يتولى حكم البلاد لحين إجراء انتخابات مدنية خلال عامين من تاريخه، وبالرغم من محاولات أحزاب المعارضة، والتي شَكّلت برفقة ضباط متقاعدين ما سُمّي حينها بـ "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية"، التخفيف من وطأة الفترة أمنيا خائضة معارك حقوقية ضد العسكريين، فإن المجلس الأعلى المهيمن على مفاصل البلاد كان قد وضع "ولد الشيخ" قيد الإقامة الجبرية في وقت وُضِعَت فيه موريتانيا كلها تحت مرمى سهام دولية رافضة للانقلاب، قبل أن تتوسط السنغال وتحت إشراف فرنسي لحل الخلاف فيما عُرِفَ باتفاق "دكار" الشهير في يونيو/حزيران 2009[10]، والذي مَثّل مخرجا للخلاف بين المعارضة و"ولد عبد العزيز" المتمتّع وقتها بأغلبية برلمانية مؤيدة.

تضمن اتفاق "دكار" تشكيل حكومة وطنية بشكل متساوٍ بين موالي "ولد عبد العزيز" والمعارضة التي ضمّت حزب تكتل القوى الديمقراطية إضافة إلى الجبهة الوطنية آنفة الذكر، على أن يُسمح بعودة رمزية لـ "ولد الشيخ" للمصادقة على الحكومة المرتقبة قبل أن يستقيل، وفُتحَ المجال للترشح للرئاسة، وبعد جولة انتخابية أغدق فيها "ولد عبد العزيز" وعوده على الموريتانيين بتنمية الصناعة والزراعة وتطوير شبكات المياه والكهرباء مع تبرعه بسخاء للمشافي والجمعيات الخيرية، تَمكّن الجنرال وعبر حصوله على دعم شمالي خالص من الوصول إلى القصر الرمادي بسهولة بالغة، قبل أن يلتفت إلى مكافئة داعميه ويركز على تصحيح علاقاته الخارجية، في وقت انتشرت فيه تسريبات عن دور لعبته فرنسا-ساركوزي ذلك الحين لإبقاء "ولد عبد العزيز" في الرئاسة مقابل مساهمته في حربها ضد "تنظيم القاعدة" في أفريقيا[11].

وفي الوقت الذي تسلم فيه "غزواني" قيادة أركان الجيش، قاد الرجل حربا مفتوحة مع "القاعدة" فيما عُرف بعملية "سيرفال" الشهيرة، وهي عملية استنزفت الجيش الموريتاني بشكل كبير مسببة سخطا كبيرا لدى الأحزاب المعارضة، قبل أن يمتد السخط للهيئات الدينية منادية بإيقاف التعاون مع باريس ووقف استنزاف إمكانات البلاد ومواردها، ولتخفيف وطأة ضغوط القاعدة المعارضة حاول وزير موريتانيا الأول "محمد الأغظف"، أحد أذرع "ولد عبد العزيز" الأثيرة، كسر الصورة النمطية عن حكم الجنرالات عبر مصادقة حكومته على قرار بتحرير وسائل الإعلام والسماح بتأسيس قنوات فضائية جديدة ومنحِها حرية أكبر، في وقت كانت فيه رياح الربيع العربي تهب على الحيز الإقليمي الموريتاني، مرسلة إشارات محتملة بالقدرة على تغيير كل شيء[12].

    خريف نواكشوط

عندما انتقلت رياح الربيع العربي إلى نواكشوط منتصف عام 2011، كان اللواء "محمد ولد الهادي" قائد جهاز الأمن وأحد المقربين من "ولد عبد العزيز" بانتظارها، حيث قام بتفكيك الحراك الذي رافقها منذ شهورها الأولى عبر إستراتيجية تنقل فيها بين اختراق التجمعات الشبابية الموريتانية، ونشر الخلاف داخلها تارة، واستخدام القوة تارة أخرى. وكانت الإستراتيجية ناجحة ما سمح لنجمه أن يبزغ داخل الأروقة الحاكمة كأحد مهندسي العالم الأمني الموريتاني الرئيسيين، إلا أن ذلك البزوغ على الأرجح أثار "ولد عبد العزيز" الذي قام بنقله مطلع 2012 إلى الأمانة العامة لوزارة الدفاع، المنصب الكافي بإفقاد أي جنرال صلاحياته الأمنية، مستغلا -أو ربما مُدبِّرا- انتشار تسريب مُريب أظهر علاقة بين "الهادي" وإحدى شبكات التهريب هناك، في وقت انتقلت فيه الأنظار الموريتانية إلى باريس طوال شهرين لمتابعة صحة الرئيس في رحلة علاجه بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بالرصاص من رجال قواته الخاصة أصابته إحداها، وهي محاولة بقيت حقيقتها مجهولة إلى يومنا الحالي[13].

خلال فترة العلاج الفرنسية والتي استمرت شهرين قبل رجوعه لموريتانيا، تولى "الأغظف" تسيير أمور البلاد وسط دعم أمني حمل توقيع قائد الأركان "غزواني"، دعم تَمثّل بشكل رئيس في حالة طوارئ غير معلنة فرضها غزواني في البلاد عبر نفوذه الحديدي في المحافظات، قبل أن يعود "ولد عبد العزيز" لنواكشوط مطلع عام 2013، لتنحسر الصورة عن نجاح أول اختبار حقيقي لمدى وفاء كلا الرجلين للرؤية التي بدا أنهما يتشاركانها، وهي رؤية رسمت ملامح المرحلة القادمة كلها.

مرتديا عباءة "ولد الطايع" السابقة في التفرد بالصدارة ومتمردا عليه في الآن نفسه بإستراتجيته، أغار "ولد عبد العزيز" على مقاعد شريحة كبيرة ممن خدموه بوفاء في فترات سابقة، مبدلا بين وظائفهم تارة ومُقيلا لهم تارة أخرى، وكان جنرال القصر الرمادي مقتنعا أن ترك السياسيين يوسعون نفوذهم في بيئة لطالما تربص الجنرالات فيها لبعضهم وراء الكواليس -محاولين إيصال وكلائهم تحت قبة البرلمان وحقائب الحكومة- لطالما كان البوابة الأثيرة لخلق شبكة انقلابية ناجحة في أي بلد تُمسك دبابات الجيش بقراره السياسي، وهي رؤية شاركه فيها غزواني دوما.

لذا، وبدءا من مارس/آذار عام 2013، أعاد "ولد عبد العزيز" موجة تدوير المناصب الكبرى، فعيّنَ ممثلُ العسكر في مفاوضات دكار "محمد يحي ولد حرمة" وزيرا للاتصالات، قبل أن يُنقل في فبراير/شباط من العام التالي إلى رئاسة "المجلس الوطني للتنظيم"، ويتبعه بعد ذلك بشهور عزلُ الأمين العام للحزب الحاكم "محمد الأمين" من منصبه وتعيينه سفيرا لنواكشوط في السعودية، وتعيين "محمد ولد محم" في قيادة الحزب بدلا منه، ثم عين "ولد عبد العزيز" بعد ذلك عقيد المليارات الثري المتقاعد "ولد بايه" عمدة لولاية "أزويرات"، إلا أن قراره الأهم جاء بإقالة اللواء "الهادي"، الجدار الصلب الذي وقف في وجه رياح الربيع العربي، وتعيين اللواء "محمد ولد مكت" عوضا عنه، تماشيا مع سياسته الأثيرة، وهي سياسة أغضبت المعارضة بمرور الوقت ودفعتها لمقاطعة الانتخابات الرئاسية عام 2014، مانحة الجنرال فرصة انتزاع ولايته الرئاسية الثانية في يونيو/حزيران من العام المذكور بسهولة.

بعد ترسيخه لمقعده الرئاسي مرة أخرى، وفي أغسطس/آب من العام نفسه، صدم "ولد عبد العزيز" الجميع بعزله حارس أسرار الرئاسة ووزيره الأول "محمد الأغظف" من منصبه، تاركا "يحيى ولد حدمين" منافسه الأول ووزير النقل ليتسلق منصبه بدلا عنه، قبل أن يُعيّنَ "الأغظفُ" مطلع العام التالي 2015 كأمين عام للرئاسة. على إثر ذلك تفجّرَ صراع بين مثلث الحكم، صراع تحالف فيه "ولد حدمين" و"ولد محمد"، رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ضد "الأغظف" مستشرفين فيه تهديدا لنفوذهما، قبل أن يقود "الأغظف" حوارا شاملا مع الأحزاب المعارضة وعلى رأسها "تواصل" و"المنتدى الديمقراطي" دفعت "حدمين" لمحاولة إفشالها ومنافسته في حوار مماثل لم ينجح أيّ منها كنجاح حوارات "الأغظف"، وهو تنافس ظلَّ فيه "ولد عبد العزيز" مكتفيا بالمراقبة ومهندسا لذلك التنافس وداعما له لتشتيت الأطراف من حوله تمهيدا للتغيير الأكبر الذي سيغيّر خارطة البلاد السياسية وإلى الأبد[14].

  كل ممالك النفط

منذ وصوله إلى الرئاسة كان "ولد عبد العزيز" طامحا لإقامة حكومة لامركزية، تحلُّ فيها المجالس الجهوية بديلا عن مجلس الشيوخ الذي تُهيمن عليه القبائل منذ عقود ليقتصر دوره على الحضور الشرفي. لذا، وفي مايو/أيار عام 2016، وبعد شهور من حوار رؤوس مثلث الحكم مع المعارضة ما أثمر تقاربا في وجهات النظر، وفيما كانت الأنظار متوجهة لمتابعة قرار إقالة "محمد فاضل ولد الحضرمي" أو إمبراطور وكالة السكان -كما يُسمّى- من منصبه ضمن سلسلة الإقالات الرئاسية المعتادة، انتقل الانتباه فجأة إلى ولاية "النعمة" عاصمة الحوض الشرقي لمتابعة خطاب جماهيري للرئيس أعلن فيه نيته تغيير العلم الوطني، وإلغاء مجلس الشيوخ واستبداله بمجالس جهوية ضمن تعديلات دستورية مفاجئة، وبرغم مصادقة البرلمان ذي الأغلبية المؤيدة للرئيس لاحقا على التعديلات، فإنه اصطدم برفض متوقع لمجلس الشيوخ لها في مارس/آذار للعام الماضي 2017، ما دفع الرئيس إلى استخدام صلاحيته ونقل المصادقة للشعب عبر استفتاء جمهوري ربحه في أغسطس/آب من العام نفسه[15].

على محرك البحث الشهير غوغل، كان بإمكان أي عملية بحث تُجرى في تلك الفترة وتحمل عنوان "إقالة مسؤول في موريتانيا" أن تكشف بسرعة وسهولة عن عشرات من قرارات الإقالة التي جرت على طول مؤسسات الدولة وعرضها، بينها عزلُ الأغظف الذي عارض تعديلات الرئيس الدستورية، و"الأمين" لتدخله في صفقة اقتصادية بين السعودية وأحد أقرباء الرئيس، في وقت تقارب فيه "ولد عبد العزيز" مع أمراء ممالك النفط في السعودية والإمارات، بعد سنوات من التطور التدريجي لعلاقة اقتصادية كانت الدولتان الخليجيتان فيها طرفها المانح بسخاء، في وقت كان الدستور الموريتاني فيه يهددُ بإحالة العديد من الضباط إلى التقاعد بينهم "غزواني"، بسبب تجاوزهم السنّ المحددة للخدمة، قبل أن يتحرك الرئيس لحماية بطانته العسكرية الواقية [16].

لذا، وخلال الشهور التالية، وفيما كانت الأنظار متوجهة لمتابعة الحصار الذي فرضته الرياض وأبوظبي والقاهرة على الدوحة في يونيو/تموز للعام الماضي 2017، وهو حصار دعمته نواكشوط في اليوم الثاني له، سارع "ولد عبد العزيز" بترقية المجموعة المهددة بالتقاعد وعلى رأسها "غزواني"، بينما التقى الرئيس في تلك الفترة أيضا مع قادة الحصار الخليجي وجنرال مصر عبد الفتاح السيسي خلال الفترة نفسها، قبل أسابيع من خروج طائرة أخرى أقلّت غزواني لأبوظبي على رأس وفد عسكري موريتاني في زيارة رسمية نادرة [17].

لم يهدأ الجنرال منذ بداية العام الحالي محاولا ترتيب أوراقه السياسية المبعثرة قبيل الرحيل الرئاسي المنتظر، بدءا من انتقاده لحركة "تواصل" لتقدمها في الانتخابات البلدية، ومرورا بمراقبته تطور العلاقات بين "غزواني" ومؤسسة الشؤون الدينية للجيش السعودي، لذا قرر "ولد عبد العزيز" فتح شريط حدودي مع الجزائر يربط مخيمات مدينة "تندوف" الجزائرية بمدينة "الزوريات" الموريتانية، وهو عملية نُظِرَ إليها بأنها تسهّل تنقل عناصر جبهة البوليسارو داخل موريتانيا وخارجها، وهو ما جعل تدهور العلاقات مع المغرب نتيجة طبيعية، قبل أن يعتاد الموريتانيون لأسابيع لاحقة ووصولا إلى اليوم الاستماع بشكل شبه يومي إلى تصريحات لـ "ولد عبد العزيز" كان الثناء على غزواني فيها حاضرا بوضوح، وهو ثناء مشابه لكلمات "جويل مايير" السفير الفرنسي في موريتانيا عندما قال "أثق بقدرة غزواني على مواصلة مسيرة محمد ولد عبد العزيز في مكافحة الإرهاب" [18] خلال الفترة نفسها، ما بدا مؤشرا شديد الوضوح على ماهية المرشح الأول لمقعد الرئيس الموريتاني.

بالنسبة للموريتانيين الذين يتداولون بكثرة هذه الأيام الحديث عن الشخصيات المرشحة للقصر الرمادي، فإنهم يتفقون على الأغلب في أن الشرط الواجب توافره في الرئيس القادم هو انحداره من المنطقة الشمالية ذات النفوذ الأثير في البلاد، وأن يكون قادرا على استقطاب مختلف الأطراف السياسية الداخلية، المعارضة والموالية، وبارعا في الآن نفسه في فهم عالم الجنرالات الكبير وذا نفوذ واسع فيه، إضافة إلى تحقيقه رغبة "ولد عبد العزيز" الأولى وهي استمرار نفوذ المؤسسة العسكرية على الرئيس.

وبرغم أن تلك المواصفات لا تتوافرُ بغالبها إلا برجل ينحدرُ من عالم الجنرالات نفسه، وهو الفريق "غزواني" ذو الأصول الشرقية، والمتمتع بعلاقات إقليمية واسعة، فإن الكثير من الموريتانيين اليوم يعتقدون أن حظوظ العقيد المتقاعد الثري ذي الأصول الشمالية "ولد بايه" بالوصول إلى كرسي الرئيس باتت اليوم أفضل من أي وقت مضى، فنجاحات الرجل في التفاوض مع الأوروبيين حول ملف الصيد البحري تزيدُ من رصيده محليا، في وقت بات يعتقدُ فيه بأن "ولد عبد العزيز" يطمحُ لتطبيق نموذج "بوتين - مدفيديف" في موريتانيا، النموذج الأثير الذي يتناوب فيه رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية على قيادة البلاد في فترات متتالية إلى ما لا نهاية، وهو نموذج يتطلب تعديلا دستوريا يسمحُ بعودة الرئيس لولاية ثالثة بعد تسلم "بايه" الرئاسة.

وفي انتظار الإعلان عن الرئيس الموريتاني نهاية عام 2019، وفي ظل تصدر حزب "ولد عبد العزيز" لنتائج الانتخابات التشريعية الدائرة في هذه الأيام، فإن الاحتمالات تبقى مفتوحة على العديد من التكهنات وسط بيئة مهيئة لأي تغير محتمل، لكن الثابت الوحيد وسط كل هذه المتغيرات، وبصرف النظر عن هوية الرئيس المحتمل، فإن المؤسسة العسكرية وعلى وجه الخصوص مثلث الحكم والنفوذ في الجيش والأمن والقصر الرئاسي، ستبقى اللاعب الأكثر تأثيرا وصانع الرئيس القادم، مناصفة مع مثلث أبوظبي -الرياض- باريس، وبشكل حتمي.

محمد جمال الدين : كاتب وباحث سوري