يتوفر لاعزيزة بنت إبراهيم -الطفلة ذات العشر سنوات- كل ما يتوفر لقريناتها من وسائل الترفيه الحديثة، وتعيش وأسرتها في انسجام تام مع مجريات الحياة العصرية، وما تقدم من إمكانيات وفرص للتسلية عبر شاشات التلفزيون والحواسيب والهواتف الذكية المرتبطة بشبكة الإنترنت.
وضعٌ كان من المفترض أن يشكل قطيعة بين هذه الطفلة وألوان الترفيه التقليدية المرتبطة في أذهان كثيرين بزمن البداوة والندرة. غير أن اهتمامات والدتها، ونشاطها المكثف ضمن "الرابطة الجهوية لترقية الألعاب التقليدية في محافظة آدرار" الواقعة في الشمال الموريتاني، أورثها ميولا ترفيهية مغايرة لتلك التي تجذب غالبية الجيل الصاعد هذه الأيام.
في رحاب هذه الرابطة بدأ شغف اعزيزة بهذا الموروث الشعبي، وعلى أيدي متخصصات حذقن هذه الألعاب أيام كانت الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتزجية الوقت، ونما هذا الشغف وتطور مع الزمن. اليوم هي من أمهر اللاعبات بهذه الألوان الشعبية وقد حصدت جوائز جهوية ووطنية عدة.
إلى منزلها الواقع في قلب أطار عاصمة محافظة آدرار في الشمال الموريتاني، حملت اعزيزة معها هذا التعلق بالألوان التقليدية. تقول اعزيزة "لقد أصبحت هذه الألعاب جزءا لا يتجزأ من حياتي اليومية، أمارسها كلما وجدت فراغا خارج أوقات الدوام المدرسي"، وقد اتخذت لنفسها مكانا قصيا من المنزل رفقة إحدى صديقاتها التي تشاركها الاهتمام نفسه بهذه الألعاب التقليدية، قبل أن تنهمكا في منافسة محمومة، استعدادا لإحدى المسابقات الجهوية.
إثارة وتشويق
قد لا تعِد هذه الألعاب من يشاهدها لأول مرة بكثير من الإثارة والتشويق، فعُدَّتها وأدواتها بسيطة مكونة من عيدان منقوشة، وثمارِ أشجارٍ برية مصبوغة بألوان مختلفة، والرقعة التي تمارس عليها اللعبة رملية صغيرة. لكن لا بد أن هناك ما يبرر هذا الحماس الذي تمارس به والدة اعزيزة وصديقاتها هذه اللعبة، ولا شك أن هناك ما يجعل تلك النسوة يطلقن الزغاريد بين الفينة والأخرى من صالون المنزل.
فبعد يوم شاق من العمل في الإدارات المحلية وسوق مدينة أطار، تتحلق والدة اعزيزة وجاراتها حول لعبة "السيك"، اللعبةِ النسوية الأشهر في موريتانيا. يضفي الحماس والطقوس التي تمارس بها هؤلاء النسوة "السيك" أجواء خاصة على المشهد، ويشتد التنافس بين الفريقين كلما تقدمت اللعبة.
وإذا كانت بعض هذه الألعاب مثل "السيك" تقتصر على تزجية الوقت وخلق أجواء تنافسية، فإن غالبيتها تتجاوز حدود الترفيه إلى أدوار تعليمية وتثقيفية. تقول خدي بنت ماء العينين عضو رابطة آدرار للألعاب التقليدية "تساهم هذه الألعاب في تنمية مهارات الذكاء والحفظ لدى الأطفال، مثل لعبتي النيروبة واكرور". وتستمد هذه الألعاب تسمياتها ومصطلحاتها الخاصة من البيئة البدوية الصحراوية، تماما كأدواتها.
قمة هذه الألعاب في تنمية مهارات التخطيط هي لعبة "ظامت" أو "اصرند" الخاصة بالرجال، وهي تشبه الشطرنج مع اختلافات في عدد القطع وقواعد الحركة، ويسمح تعدد القطع -التي تصل إلى أربعين لكلا الخصمين- والرقعة الكبيرة نسبيا، بمجال مناورة أوسع، وتمارس عادة في الأماسي على رمال الصحراء.
تطوير الأدوات
غير أن تغير أنماط العيش وطبيعة الحياة العصرية دفعت ممارسي هذه اللعبة وغيرها من الألعاب التقليدية إلى تطوير أدواتها، لتنسجم مع ما تفرضه المدينة من ترشيد للوقت وأناقة في المظهر.
وهناك مبادرات ساهمت في حضور بعض هذه الألعاب داخل المدينة، بعد أن اندثر أغلبها في ظل التغيرات الاجتماعية والتحولات المتسارعة في أنماط الحياة. فـ"أغلب الألعاب التقليدية قد انقرضت" بحسب ما تؤكد خدي التي قالت إن "ما لا يزال يمارس من ستين لعبة قمنا في رابطة الألعاب التقليدية بإحصائها هنا في آدرار، لا يتجاوز عدد أصابع اليد".
كما تشجع المهرجانات الثقافية والفلكلورية التي تحتفي بالموروث الشعبي على الاهتمام بهذه الألعاب أكثر بين الأجيال الصاعدة. وقد لعب مهرجان المدن التاريخية -التي تقع اثنتان منها في آدرار، هما شنكيطي ووادان- دورا مهما في لفت الأنظار إلى الإمكانيات الترفيهية التي يزخر بها التراث الموريتاني، بحسب خدي.
إمكانيات تتمنى القائمات على رابطة الألعاب التقليدية أن تلقى ما تستحق من الرعاية والاهتمام، فهي خزان يحمل ماضي الأجيال ويربطها ببعضها بعضا، عبر ما تجسد من رؤى وتصورات عن الحياة والكون، وعلاقة الإنسان بالطبيعة.
المصدر : الجزيرة