درءا لشمس الصحراء الحارقة، أم اتقاء لأتربتها وعواصفها الهائجة؟ حياء من الأهل والأصهار، أم معرة من هزيمة مني بها الرجال ذات ماض سحيق؟ تتعدد الحكايات حول أصل اللثام ومكانته لدى الطوارق.
وتتشعب هذه الحكايات حد التنميط والأسطرة، لكنها جميعا قد لا تشفي الغليل في وصف هذا التماهي، ولا تفسرُ هذا التمازج بين الطارقي ولثامه.
فبعد سنوات من فراق الصحراء والابتعاد عن عواصفها، وفي أحد صباحات اللجوء العادية بمخيم امبرة شرقي موريتانيا، حيث لا حر ولا عاصفة ولا أحد من كبار الأهل في الجوار، ما يزال محمد آغ حتاي يعَض على لثامه بنواجذه وعصابته، ويرفض حتى أن يفارقه، ولو للحظة يستعرض فيها أمام الكاميرا كيفية ترتيبه وشدّه.
لثام وقصة
وضع آغ حتاي على رأسه ووجهه اللثام قبل ثلاثة عقود، حين قارب العشرين من العمر، وتلك بداية لمرحلة حاسمة من حياة الفرد الطارقي، حين يصبح من كبار القوم، ورجلا يعول عليه في أمور القبيلة وشؤونها.
يقول آغ حتاي "لا أتذكر أني نزعت هذا اللثام إلا وقت المنام"، ويؤكد "فمن العار عندنا أن يشاهد الرجل حاسر الوجه أو الرأس".
وحين تسأله عن تفسير هذا الارتباط، يرد آغ حتاي بأن اللثام علامة مميزة للطوارق، من المستحيل أن يتخلى عنها الطارقي الفخور بهويته وانتمائه. تشبث يؤكده احتساء آغ حتاي للشاي وشربه للماء من تحت اللثام، على عادة الأجداد.
ويحرص الطوارق في مخيمات اللجوء -رغم شح الموارد وقلة ذات اليد- على اقتناء أجود أنواع اللثام وملحقاته، مثل العصابة و"تاشْكاررْت" أو المحفظة اليدوية التي تحمل أدوات التدخين. ويضبطون ألوان اللثام وفق أعراف محددة؛ تعطي للأسود الأفضلية في المواسم والأعياد، ويمزج الشيوخ وكبار القوم بين الأبيض منه والأسود.
يقول محمد آغ المختار الطارقي الموظف بمفوضية اللاجئين "إن سلطان القبيلة والتقاليد ما يزال حاسما في فرض هذا العادة على الجميع، خاصة في الحواضر والأرياف الأزوادية، وهو ما يقلل من تأثير التساهل الذي قد يبدو لدى الأجيال الصاعدة وسكان المدن من الطوارق بشأن اللثام وغيره من العادات".
وبحسب الطارقي فإن التقاليد الطارقية الضاربة في العمق، لا تزال حاضرة في هذا المجتمع بكل تفاصيلها، حيث لا يزال الغناء حكرا على طبقة "إينهضن" الحِرْفية المتخصصة في حفظ أمجاد القبائل والتغني بشجاعة وبسالة شعب الطوارق. كما أن القتال أو امتلاك أدواته التقليدية من رماح طويلة وتروس مصنوعة من جلد المها، من اختصاص طبقة الأسياد أو "إيماجغن" حصرا.
تراث ثري
ويتحدى الطوارق اللاجئون ظروفهم المعيشية الصعبة بالتمسك بكل ما يحمله تراثهم الثري والخاص من مقومات، فيحرصون على إحياء كل المناسبات الاجتماعية مثل الزفاف.
وإن أعوزتهم في مخيمات اللجوء وسائل الاحتفال التي اعتادوا في أزواد، من ذبح للأغنام وسباق على الإبل والخيول، فلا بد من تخليد ذكرى هذا اليوم السعيد برقصات وأهازيج تقليدية تحفره في الذاكرة. "إنها فرصة لتجديد الارتباط بين أعضاء الفئة العمرية الواحدة"، كما يقول الشاب تنتو آغ محمد عثمان، "والاستمتاع بالموسيقى الطارقية والألحان الشبابية".
ويلوذ الطوارق لممارسات وطقوس في سنِين اللجوء المتعاقبة، بعدما هجّرتهم الحروب والصراعات من الأوطان، وقطعت قبل ذلك الحدود الموروثة عن الاستعمار أوصال صحراء فسيحة طالما تنقلوا في أرجائها بحرية كاملة.
موروث الأجداد
فحين يضع طارقي لاجئ لثامه في يوم لا قيظ فيه ولا غبار، فهو لا يتشبث بطقس موروث عن الأجداد وحسب، بل يعبر عن حنين قاتل لشمس الصحراء والحق في أتربتها وغبارها، ويحاول أن يرى أزواد كما كان قبل قرون.. أزواد لا تحلق في سمائه طائرات الرافال والميراج الفرنسيتين، ولا تحرس بوابات جوهرتِه تمبكتو قوات مالية وأممية، ولا تتنازع السيطرة على مسالكه ودروبه الوعرة جماعات مسلحة وعصابات تهريب.
وتوقا إلى هذه الصورة التي لا تبدو في طريقها إلى العودة في المدى المنظور، سيتمسك آغ حتاي بلثامه، وسيشد عصابته أكثر فأكثر.
المصدر : الجزيرة