تخل بلادنا في قادم الأيام مرحلة سياسية تستدعي تقديم قراءة تقييمية لواقع العمل المعارض وفق معطيات الماضي، وهذا ما جعلني أحاول تقديم وجهة نظر قد لا تعجب البعض داخل الحيز الجغرافي المعارض، لكنها تقدم قراءة أظنها معمقة تبين من خلالها أن المعارضة الموريتانية فشلت خلال العقد الماضي في قراءة الساحة وفق مبدأ الامتيازات التي كانت ستحصل عليها لو تعاملت مع الواقع بشيء من الحكمة يلزمها بمراعاة خصوصية المجتمع والظروف المحيطة بالمشهد السياسي، وأكثر مرونة وقدرة على انتهاج سياسة التنازلات التي قد تفرضها إرادة الوصول إلى تلك الامتيازات.
اتضح لي أن أغلب المعارضين تجاهلوا واقعهم حين انتهجوا ما يمكن أن يندرج في خانة جنون الارتياب من النظام ومن كل خطواته. هذا الشك المفزع تم تصنيفه لدى بعض المواطنين دافعا شخصيا عند قادة المعارضة لاستهداف النظام الذي فرض الأحادية في تسيير أمور البلد، بينما وضعه آخرون في خانة عمل جماعات الضغط داخل مؤسسة حزبية ما لتوجيه قرارات "مؤسساتهم" الحزبية في ما يخدم تلك اللوبيات، بينما رأى غيرهم أن العمل المعارض برمته هو عبارة عن مجرد انسياق خلف قرار حزبي ضيق تم فرضه بقدرة قادر ليتسيَّد المشهد المعارض ويتصدر خطابه. كل هذا جسد انطباعا عاما لدى السواد الأعظم من الشعب أن أحدا لا يهتم به، وإنما يتخذ قرارته بناء على أساس موقع أو موقف. وذلك ما ولد لدى غالبيتهم نزعة انعزالية أبعدته عن المشهد المعارض وعن ما يدور في فلكه.
هناك ما يؤكد أن المعارضة عندنا حددت هدفها بشكل واضح لكن قادتها لم يوفقوا في تقديم خطة ناجعة في تحديد الوسيلة التي توصل إلى تحقيقه. بل على العكس، لاحظنا أنها لم تستطع تجنب إضعاف تحالفاتها البينية خلال حكم ولد عبد العزيز، حيث انفرط سريعا عقد منسقية المعارضة الديمقراطية، ثم المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، وأخيرا تحالف الثماني، وكل هذا يجعلنا كمهتمين ومتابعين ننظر إلى تحالفات المعارضة بأنها مقلقة وغير مؤكدة الثبات، نظرا لعدم وجود مشتركات سياسية قوية أو أرضية ثابتة تحفظ انسجامها ودوامها.
ما لاحظته خلال عقد ويزيد داخل الحقل المعارض أن أحزاب المعارضة لم تنظم قط – حسب علمي - ورشة مشتركة لأطرها بغية تدارس الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد وتعميق الرؤية والنقاش حوله، ولم تقدم وثيقة قادرة على الصمود تمثل مرجعية سياسية جامعة لهذه التكتلات. بل ركزت جهدها وعملها على إصدار بيانات من موقف هنا أو حدث هناك دون بوصلة مضبوطة.
إن هذا الاضطراب الحاصل لم يجعل العمل المعارض عامة جذابا لعامة الشعب. ولم يتمكن من استقطاب قوى مؤثرة داخل الأغلبية وإقناعها بالخطاب المعارض، وأوجد ذلك حالة من الإرباك لدى المواطن وجعله فريسة أسهل أمام الداعين إلى حلف النظام.
ثم إن المعارضة الموريتانية من خلال تهجمها الدائم على رأس النظام قد فضحته بشكل أكبر، لكنها بذلك وفرت قاعدة لا يستهان بها من المتعاطفين معه ولو بدافع الشفقة، وهذا مصدر خسارة لجزء من عامة الشعب كان بالإمكان اجتذابه لو سخرت المعارضة بعض جهدها للحديث عن المشاكل الاقتصادية ممثلة في انخفاض الرواتب والارتفاع المزمن للأسعار، والنهب المتسارع للثروات المعدنية والسمكية للبلد، والواقع الصحي المزري، وتحدثت عن إزهاق أرواح المواطنين عبر حوادث السير التي أصبحت حدثا يوميا مؤلما.
استنزفت المعارضة نفسها بنفسها وهذا برأيي مرده أنها أساءت فهم نمط تفكير المواطن الموريتاني الذي تغلب عليه النزعة العاطفية أكثر من تلك العقلانية، وبالتالي خسرت جولات عدة من معركتها في كسب الرهان عليه.
لقد ارتهنت المعارضة بدل ذلك للموقف السياسي اللحظي المتمثل في التركيز على مهاجمة القرارات التي تصدرها الحكومة من وقت لآخر، أو التصعيد اتجاه صفقات التراضي التي يبرمها النظام ويستمرئها. وكذلك دأبت على مخالفة رأس النظام في كل قراراته مهما كان حجمها واتجاهها.
لم توفق المعارضة عندنا في تقاسم معلوماتها الموثقة عن فساد النظام مع بعضها البعض ولم تعمل على نشرها ومشاركتها مع الرأي العام، وذلك مصدر فشل آخر كان يمكن من خلاله أن تنمي النهج التشاركي لديها وتحسن من خلاله العلاقة مع المواطن وبالتالي هي تصنع رصيدا لديه يمنحها الثقة ويمدها بالعزيمة للتعامل مع قادم التحديات.
رغم الملاحظات السابقة فإنها لا تنقص من مكانة المعارضة ولا تحط من قدرها، ذلك أنها لا زالت تملك – حين تريد- الفرصة لإدارة الواقع الجامح وبطريقة أفضل، وذلك حين تدير تحالفاتها بشكل أكثرة صلابة وتصدر مواقفها حسب ما تمليه ظروف المواطن وبالتالي تصبح نواتها أكثر نضجا ومواقفها أقوى وأحسن تأثيرا، خاصة والبلاد مقبلة على استحقاقات 2019 المصيرية.